الحقيقة التي أؤمن بها وقد أجد الكثيرين من المتابعين والمهتمين بالشأن السوداني يشاركونني فيها هي أن تاريخ السودان الحديث كله متشابه، فكثيراً ما تنطبق مقولة التاريخ يعيد نفسه على أحداث ووقائع سياسية واقتصادية واجتماعية شهدها السودان على مر تاريخه القريب منذ أن رفع علم الاستقلال عن الاستعمار البريطاني منتصف خمسينيات القرن الماضي. انطلاقاً من تلك القناعة فقد اعتدت على الاحتفاظ ببعض قصاصات الصحف المحلية والأجنبية والتي توثق بالخبر أوالتحليل أوالحوارات لأحداث ومشاهد تاريخية، وذلك من أجل المقارنة والخروج بمؤشرات تفيد كثيراً في التنبؤ باتجاه بوصلة الأحداث اللاحقة. وبالأمس وأنا أمارس عادتي في تقليب هذه القصاصات والأوراق القديمة في فترات متباعدة، عثرت على قصاصات تعود إلى العام 1997، ومن ضمن هذه القصاصات وجدت «خريطة» للسودان كانت الحركة الشعبية قد طرحتها كمقترح لتقسيم السودان وذلك في مفاوضات نيروبي في أكتوبر من العام 1997، والخريطة المقترحة كانت قد نشرتها جريدة الأنباء في نوفمبر من نفس العام. ما يدهش هو أن الخريطة المقترحة كانت تقسم السودان إلى نصفين شمالي وجنوبي، ويضم النصف الجنوبي جنوب كردفان والنيل الأزرق وجنوب دارفور، وطبعاً منطقة أبيي. وقد سمّت الحركة الجزء الشمالي ب «كونفيدرالية دولة الشمال» والجزء الجنوبي ب «كونفيدرالية دولة الجنوب». وقد قوبل مقترح الحركة الشعبية هذا والتي كان يطلق عليها وقتها «فصيل قرنق» حيث كانت الحركة تعاني من الانشقاق والانقسام ولا أحد يدري هل كان ذلك الانشقاق حقيقياً أم كان تمويهاً مرحلياً استفادت منه الحركة في تدعيم مركزها لاحقاً وفي الحصول على المعلومات الضرورية التي ما كان من الممكن لها أن تجدها وهي تقاتل في احراش الجنوب وأدغاله، عموماً هذا متروك للأيام فهي الجديرة بكشفه وإماطة اللثام عنه مهما طال الزمن. قوبل هذا المقترح بالرفض والاستهجان رسمياً وشعبياً. وفي هذا الصدد فقد نقلت صحيفة الأنباء الحكومية على لسان وزير الخارجية في ذلك الوقت علي عثمان محمد طه قوله في مؤتمر صحفي في الخرطوم بتاريخ 14/نوفمبر/1997م تعليقاً على مقترح الحركة الشعبية ما يلي بالنص «وقال علي عثمان إن الحركة في طرحها للكونفيدرالية دعت إلى سحب الجيش القومي إلى الشمال وإعلان دولتين تتمتع كل منهما بكل مظاهر السيادة الكاملة والعمل بقانون ما قبل 1983م وأدخلت الحركة مناطق جديدة لتقرير المصير لتشمل جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور لتكون على مشارف سنار وكوستي».. انتهي. الشاهد والمدهش هنا أن هذا المقترح الذي استنكره وزير الخارجية وقتها وكبير المفاوضين عن السودان في نيفاشا والنائب الأول اليوم هو ما يجري تطبيقه الآن بدقة متناهية وب «المِلّي». فقد استطاعت الحركة الشعبية بعد توحدها والتئام شملها برجوع مشار ولام أكول وغيره من القيادات إلى الحركة الأم تحت زعامة قرنق، استطاعت أن تلحق بطريقة ملتفة منطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان بدولتها وربطهما بها بحبل متين «فتلته» الحركة في نيفاشا على مرأى من الوفد الحكومي المفاوض، وهذا الحبل هو حبل ما سُمِّي بالمشورة الشعبية لهاتين المنطقتين الشماليتين دماً ولحماً ولا أحد يدري حتى الآن لماذا رضي وفدنا بهذا الوضع «الأغبش» وسكت عن رفضه!! وقد انفصل الجنوب بالفعل وأصبح دولة قائمة بذاتها وكاملة السيادة وتمتلك بنية أساسية نفطية ورثتها عن الدولة الأم السودان وتحول جيشها الشعبي الذي قهرته القوات المسلحة ما قبل نيفاشا إلى جيش نظامي أصبحت له الجرأة على شن الحرب على السودان واحتلال مدن فيه!! مقترح الحركة الشعبية بتقسيم السودان إلى نصفين هو الآن يجري استكماله بدأب من قبل دولة الجنوب ومن ورائها طبعاً الدوائر الصهيونية المتحالفة مع الدوائر الكنسية العالمية، بدعم أساسي مما يسمى بالشرعية الدولية والمجتمع الدولي من خلال قرار مجلس الأمن الدولي 2046 الذي «يحث» الحكومة السودانية على الاعتراف بالحركة الشعبية قطاع الشمال والتفاوض معها على أسس مشابهة لتلك التي تفاوض عليها مع الحركة الشعبية الأم لإعادة إنتاج «نيفاشا تو» في منطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان ويتم إلحاق جنوب دارفور قسراً إليهما بعد القيام بعمل عسكري فيها من قبل فصائل دارفور في الجبهة الثورية بدعم من دولة الجنوب ثم الاحتجاج والدفع بأن هذا العمل شأن داخلي يتعلق بتمرد سوداني لا دخل لجوبا فيه، لذلك فإن فصائل تمرد دارفور المنضوية تحت الجبهة الثورية تنشط هذه الأيام لتحقيق هذا الهدف المهم والحيوي الذي سيكفل لها الحضور في المفاوضات القادمة تحت مظلة القرار 2046. من المفارقات العجيبة أن رياك مشار نائب رئيس جمهورية جنوب السودان حالياً وعضو الوفد الحكومي السوداني لمفاوضات نيروبي ورئيس المجلس التنسيقي للولايات وقتها وكان في ذلك الوقت قد «انشق» عن حركة قرنق قال معلقاً على طرح الحركة لخريطة تقسيم السودان ما يلي حسب ما أوردته صحيفة الأنباء الصادرة بتاريخ 15/11/1997 «إن طرح الحركة للكونفيدرالية يؤكد عدم رغبتها في السلام وأن قبول وفد الحكومة لمناقشة إعلان المبادئ أربك حساباتها وسد الطريق أمامها مما جعل الحركة تقدم خريطة الكونفيدرالية بمعنى قيام دولتين منفصلتين تماماً إحداهما شمال خط عرض «13» والأخرى جنوبه وتساءل مشار كيف يفهم الجنوبيون أنهم يقاتلون من أجل سنار» انتهى كلام مشار. ونحن نقول لمشار الذي يتولى كبر الحرب على السودان نعم إنكم تقاتلون الآن ليس من أجل سنار ولا كوستي أو الابيض أونيالا فقط وإنما تقاتلون من أجل الخرطوم وحتى حلفا القديمة نيابة عن من يدعمونكم ويخططون لكم ويستخدمونكم لتحقيق أهدافهم للقضاء على الإسلام في هذا البلد وقد قالها سلفاكير و«زل» بها لسانه قبل أيام إنهم سيكونون حائط صد منيع ضد زحف الإسلام نحو إفريقيا وانتشاره في الإقليم. ما يفزعني حقاً أن المؤشرات كلها تقول إننا ماضون في نفس المسار المرسوم لنا، نرى عدونا وهو يزرع حقل الألغام ومع ذلك نأتي لندخل فيه بكامل طوعنا واختيارنا. أخشى أن يتكرر السلوك الحكومي السابق في نيفاشا بعد أيام في أديس، فقد رفضنا واستهجنا وشجبنا واستنكرنا مقترح الحركة لتقسيم السودان في نيروبي ثم ما لبثنا أن قبلنا به في نيفاشا. رسالة نصية لعمنا إسحق فضل الله: