ونحن نحتفي هنا بمرور اثنين وعشرين عاماً على وفاة مبدعنا وأديبنا د. محمد عبدالحي الذي رحل يوم 23/8/1989م نعيد نشر مقاله، باختصار والذي كتبه لمجلة «الدراسات السودانية» ونشرته في عددها الصادر في أكتوبر 1988م وذلك عن الشاعرين «جيلي عبد الرحمن وتاج السر الحسن» حيث احتفى عبد الحي بديوانهما المشترك «قصائد من السودان»، وركز أكثر في تناوله لأشعار جيلي في الديوان الأول « قصائد من السودان» وديوانه الثاني «الجواد والسيف المأسور». وصف عبد الحي قصائد الديوان الأول خاصة قصيدة «عبري» بالعديد من الصور والإيقاع والخيالات وقال إنها تشتمل على صور واضحة المعالم تنبع من أشياء حقيقية في منطقة الشاعر «عبري» : وساقيةُ مرنّحةُ تجرجرها قوى الثورِ تدلّت أذنه تعباً من الإنهاك والسير ِ ويمشي خلفه الفلاح وهو مقوس الظهر تغيم بعينه الدنيا ويلعن ذله الفقر وقال عبد الحي إن ديوان جيلي الجديد «الجواد والسيف المأسور» يدل بوضوح على أنه اكتشف في نفسه أصواتاً جديدة ومجالات للرؤيا لم يطرقها من قبل، وإن قراءة قصائد مثل «أوديب الذي لا يعشو» و«الجواد والسيف الماسور» و «أربع رسائل إلى حبيبة نائية» مثلاً ، مع مقارنتها لقصائد الديوان الأول «عبري أطفال حارة زهرة الربيع» تبرهن على أن الشاعر جيلي أجهد نفسه كثيرًا في هذه السنوات طلباً للشعر الجيد، ولاحظ كل من قرأ المجموعة الشعرية الجديدة هذا التطور في شعر جيلي. يواصل عبد الحي القول بأن جيلي صار أكثر ثقة في قواه المتمكنة، وصار أكثر شجاعة في تعامله مع اللغة، واقترب أكثر من ذي قبل من الكلمات من: خشونتها، ليونتها، نعومتها، طعمها، لونها، وقعها على الأذن، وتدحرجها عبر الحلق واللسان. أما المسألة السياسية عند جيلي فيصفها عبد الحي بأنه اهتم بها بصورة خاصة، ولكن الالتزام السياسي بالضرورة التزام ميتافيزيقي، ومنها تهرب الشاعر وابتعد عن ذلك المجال فهو فيه بالضرورة، ويفصح رؤياه عنه منذ البداية بصورة شعرية باستعمال اللغة وبالمزاج الذي يقترب به من قضية «الثورة»، كما أن اهتمام أي شاعر بالسياسة يعني اهتمامه بالعالم الذي حوله أي العالم الموضوعي الموجود خارج «ذاته» وهنا يكمن الفرق الأساسي بين الشعر الرومانتيكي والشعر الحديث، فالشعر الرومانتيكي مثل الفلسفة المثالية، ينبع أساساً من ذلك الانشقاق بين «الذات» و«الموضوع»، بين «الظاهر» و«الباطن» «المخبر» و«المظهر»، «الداخل» و«الخارج».. بينما يتجه الفكر الحديث والشعر الحديث إلى اكتشاف ذلك المجال العام الذي تختفي فيه هذه الثنائية أو هذه «الغيرية» «بلغة المتصوفة» التي ترجع إلى التفرقة الافلاطونية القديمة بين عالم الأشياء وعالم المثال، وليس بيننا من يجهل أن الفلسفة الافلاطونية جزء لا يتجزأ من تراث الفكر العربي الإسلامي، ومنذ ظهور الإسلام، بل وقبله بقليل.. فأين يكمن عالم «جيلي» بين هاتين النظرتين؟ للإجابة عن هذا السؤال استشهد عبد الحي بأربعة أبيات شعر، وردت فيه كلمات ذات دلالات ذلك من قصيدة نُشرت في الديوان رأى فيه د. عبدالحي أنها تحمل رؤية «جيلي» للثورة. فكلمات مثل «الجدار» و «الأسوار» و «القاع» و «السجن» و«الحائط» و«النفق» فهذه الكلمات تحسس الشاعر بثقل العالم الخارجي عليه، والثوار في تعبير جيلي أثاروه أو حرّضوه للشعر هم « السجناء» و«المعتقلون»، دون غيرهم، مثلما أنحت من عرقي، وأيامي ، وسجني ..» «وفي ظلام المعتقل وغراس الصمت كالقضبان تغتال المقل» هنا الشاعر يعكس رؤياه على العالم حوله، وهو دوماً في سجن ما، وعالم الحرية دايماً هناك « بعيداً في» الخارج بينما عالمه يتركّب من بعدين : «كأن جسرًا بيننا تحطما و«هاربان من مدينة الدمار / ووجهها الأصم كالجدران ». ويصف عبد الحي بأن سجن الشاعر هنا ليس سجناً مادياً بل أن السجن داخل الشاعر «نفسه»، وفي «وعيه»، إنه يحمله معه أينما راح: وألف سور شأنه يغوص في دمي المُراق يحول بيننا حمامتي ما أوحش الفراق فالشاعر في غربته الداخلية، داخل سجنه الخاص لا يمكن أن يرى العالم مباشرةً فهو في قطب والعالم في القطب الآخر، والبشر جزء أساسي من ذلك العالم هم القطب البعيد بينه وبينهم مسافة تحجب عن «جيلي» رؤية التفاصيل، فدائماً هناك «أمٌّ» بعيد منتظرة بينها وبين ابنها وزوجها الغريب جبال وبحار لا يمكن أن تُعبر ولا شيء يمكن أن يجمع بينهما «زماننا يا منية اليتيم لا يجود باللقاء»، قد يلتقيا في حلم أو منية أو شوق وهي رسائل ذاتية محضة ثم إنها المحاولة الوحيدة للشاعر تتخطى انقسام رؤياه إلى بعدين: ذاتي وموضوعي، بعيد وقريب، وهذا يضع تفسيرًا لماذا يفرض الزمان والمكان نفسيهما فرضاً على عالم الشاعر: إن شد خطاك إلى الشط حنين الأم تحلم في وحشتها بالأُبة على الطيف يواتيك الليلة في الحلم . - نواصل-