عندما هشَّم قابيل جمجمة أخيه هابيل، معلناً حدوث أول جريمة قتل في تاريخ البشرية وأول (خيبة) ما بعدها خيبة فيما يفعله بجثة أخيه (فأصبح من النادمين)، أرسل الله سبحانه وتعالى غراباً يبحث في الأرض ليري قابيل كيف يواري جثة أخيه. (فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه، قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين)المائدة»31». وهكذا ورثت ذرية آدم إلى يومنا هذا شيئين من ممارسة جريمة القتل: الخسران والندم الذي يعقب الحيرة الكبرى، ألا وهي التخلص من الجثة. ألم تلاحظوا أن المجرم يرتكب جريمة القتل في ثوان ولكنه يظل في حيرة من أمره: كيف يتخلص من الجثة؟ وإذا تمكن من التخلص من الجثة، كيف يتخلص من أداة الجريمة.. ولكن لماذا الغراب؟ الإجابة .. لا ندرى .. فذلك يدخل في علم الله. وأي ضرب من الإجتهاد في التفسير في هذا المجال هو من قبيل التخمين الذي لا يخلو من مجازفة ليس لها داع . الذي نعلمه أن الله قد اختار ذلك الغراب لإعطاء الدرس الأول. تماماً مثلما لا نعلم لماذا اختارالهدهد ليعمل في استخبارات سيدنا سليمان عليه السلام.. حيث أن التقرير الذي رفعه لسيدنا سليمان عن مملكة سبأ، أدى إلى إنهيار تلك المملكة وذوبانها في ملك سليمان. (وتفقد الطير فقال مالىَ لا أرى الهدهدَ أم كان من الغائبين(20) لأعذبنه عذاباً شديداً أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين(21) فمكث غير بعيدٍ فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين(22) أني وجدتُ امرأةً تملكهم وأُوتيت من كل شئ ولها عرش عظيم(23) وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون اللهِ وزيّن لهم الشيطانُ أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون((24 صدق الله العظيم(سورة النمل ). ذلك هو التقرير الذي رفعه الهدهد لسيدنا سليمان وقد اتضح فيما بعد أن الهدهد كان غائباً في مهمة رسمية استخباراتية.. تتعلق بجمع معلومات عن دولة مجاورة . ولكن لماذا الهدهد وهناك الصقر يملك من المؤهلات التي تجعله يتفوق على الهدهد؟ فهو قوي في طيرانه ويستطيع أن يطير على ارتفاعات شاهقة أو منخفضة مما يجعل مهمة رصده على أجهزة رصد مملكة سبأ مهمة عسيرة. كما أنه يتمتع بحدة في النظر تفوق مئات المرات حدة نظر الهدهد. وتقاريره التي يرفعها لسيدنا سليمان ستكون أكثر دقة. (وورث سليمان داوود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شئ إن هذا لهو الفضل المبين) النمل «16». والحقيقة أننا لا ندرى لماذا وقع الاختيار على الغراب لإعطاء ذلك الدرس. ولكننا يمكن أن نخوض مع الخائضين في مواهب الغراب دون أن نربط ذلك بعلة اختياره. الغراب ينتمي إلى عائلة الغرابياتCORVIDAE التي تضم طيوراً أخرى مثل الغداف RAVEN وأبا الزريق JAY والعقعق magpie والزاغJACKDAW . ومن ناحية الذكاء يعدّ الغراب من أذكى الطيور بلْ لا يدانية طائر آخر. إن نصفي الكرتين الدماغيتين كبيرتان بدرجة ملحوظة. وأن نسبة كتلتهما الدماغية إلى نسبة وزن الغراب تفوق أية نسبة أخرى عند الطيور حتى في حالة النعامة التي تملك أقل نسبة. أمة الغربان سبق وجودها وجود الإنسان الذي أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكورا. ولذلك أراد الله أن يكون الغراب هو معلمه الأول عندما قتل قابيل أخاه هابيل. وربما لو لم يبعث الله بذلك الغراب الذي أعطى درساً عملياً في كيفية التخلص من الجثث، لبقي الإنسان حائراً إلى يومنا هذا. وكلما تطاول الإنسان بقدراته وطغى وتجبر وظن أنه (ربُّكم الأعلى) في فرعنة تاريخية إمتدت إلى يومنا هذا، أعاده الله إلى مواعين العجز وذكّره بها : (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ)الحج «73». والآن فإن الحضارة الحديثة أنتجت مجتمعاً إستهلاكياً يفرز من النفايات الأطنان يومياً دون أن يفرز أداة فاعلة لمعالجة تلك النفايات. فنمت أكوام النفايات والقاذورات على شوارع وأزقة المدن كالدمامل. وارتفعت سحائب المكروبات والروائح النتنة حول المجاري والجداول التي نحفرها عاماً بعد عام وكأننا في مغالطة مستدامة. وكما بعث الله سبحانه وتعالى غراباً يرينا كيف نواري موتانا في بداية وجود الإنسان، جاءنا هذا الغراب(في الصورة المرفقة مع هذا المقال) ليرينا كيف نتعامل مع نفاياتنا. معليش دعونا نتضاءل قليلاً ونقلّد هذا الغراب المعلم فربما استفدنا شيئاً. آخر الكلام: دل على وعيك البيئي.. لا تقطع شجرةً ولا تقبل ولا تشترِ ولا تهدِ هديةً مصنوعةً من جلد النمر أو التمساح أو الورل أو الأصلة أو سن الفيل. وليكن شعارك الحياة لنا ولسوانا. ولكي تحافظَ على تلك الحياة الغالية لا تتكلم في الموبايل وأنت تقود السيارة أو تعبر الشارع. وأغلقه أو اجعله صامتاً وأنت في المسجد.