يأتي الحراك الفكري لثورات الربيع بقصد وضع قاعدة جديدة تنطلق منها دول الثورات لتنسى الماضي الذي رحل بزعمائه وترك الساحة والكرة في ملعبهم، ولعل الحراك الذي جاء أخيراً منطلقاً من تركيا بمؤتمر «الصحوة العربية والسلام في الشرق الأوسط» الذي اختتم أعماله مساء الإثنين الماضي، وندوة «الإسلاميون والثورات العربية» التى اختتمت أعمالها أمس «الاربعاء» وشاركت في كليهما مجموعة كبيرة من ناشطي الاسلام السياسي من الدول العربية، وبالتأكيد لن يعيد اللقاءان ما أسسسه د. حسن الترابي عام 1991م «المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي» الذي ضم ممثلين من «45» دولة عربية وإسلامية آنذاك، لكن ربما بنفس الشخصيات التي شاركت في مؤتمر الخرطوم عادوا واصبحوا بين تركيا وقطر اللتين تتزعما الحراك الاسلامي العربي، رغم أن التجربة الدينية في الأصل بالمنطقة ممتدة منذ مئات السنين ومستندة إلى ثقافة التعددية والتعايش، لكن الغزو الثقافي الغربي الذي جعل العلمانية منهج جزء أصيل من حياة المنطقة جعل الاسلاميين يتوقفون أمام خيارين هما أما التعامل معه واتخاذ التجربة التركية مثالاً، أو انتاج ثقافة إسلامية جديدة لكي تواكب العصر مع التحديات التى تهاجم المجتمعات المسلمة بصورة يومية، وبين مؤتمر استنطبول الذي استضاف زعماء دينيين مسلمين وخبراء، منهم بروفيسور نديم شيهادي من مركز تشاتام هاوس البريطاني ومدير مركز الوليد للتفاهم «الإسلامي المسيحي» بجامعة جورج تاون الأمريكية بروفيسور جون إسبوسيتو، وخلال الاسطر القادمة نتيح المجال لما قاله الخبراء في ندوة الدوحة ورأي المختصين في الخرطوم بشأنه: التمهيد من الجزيرة ابتدر النقاش مدير مركز الجزيرة للدراسات الدكتور صلاح الدين الزين، قائلاً: إن ثورات الربيع العربي أنهت حقبة ما بعد ال 11 سبتمبر وبدأت حقبة جديدة في العالم كله وليس في الشرق الأوسط فقط، بحيث لم تعد ذكرى 11 سبتمبر تشكل محطة تتوقف عندها مراكز الأبحاث وأجهزة الإعلام وصناع القرار حتى في الولاياتالمتحدةالأمريكية، وإن ثورات الربيع العربي أحدثت تغييرات هائلة في كثير من دول المنطقة وبدأت تتشكل على إثرها ملامح مشهد جديد في العلاقات الإقليمية والدولية، وسيظل العالم يذكر لزمن طويل قادم استشهاد محمد البوعزيزي في تونس على أنه لحظة فارقة في مسيرة الإنسانية نحو الكرامة والحرية والتقدم. ل «الغنوشي» كلمة قال رئيس حركة النهضة في تونس الشيخ راشد الغنوشي في الجلسة الأولى التي تناولت المرحلة الانتقالية، إنه خلافاً لحالات عديدة من إحراق الأشخاص لأنفسهم، شكل إحراق محمد البوعزيزي لنفسه حدثًا كونيًا لأنه أطلق شرارة أسقطت ديكتاتورية بن علي وديكتاتوريات أخرى في المنطقة، وهزت عروشًا وجعلت أخرى متخوّفة، حيث قال الشيخ الغنوشي في سياق كلمته، إن إقدام الشاب محمد بوعزيزي على إحراق نفسه أضرم النار في عروش فاسدة، معتبراً أن الثورة «نقلتنا إلى وضع جديد» وهي لم تكن تغييراً بسيطاً، بل أنهت الحقبة التي بدأت مع أحداث 11 سبتمبر التي رسخت في الغرب صورة سلبية عن المسلمين مرتبطة بالعنف والإرهاب، قبل أن تكرس الثورات السلمية صورة مغايرة هي صورة الثورة والحرية والتغيير. ونفى الغنوشي أن يكون ما حصل نتاج مؤامرة أو سايكس بيكو جديدة واستجابة للخارج، بل نتاج حركة الشعوب التي أعادت لها الثورة الثقة في نفسها وأظهرت أنها تملك أداة شعبية وتحدد مستقبلها، مشيرًا إلى أن القول بدعم الغرب للثورات عمل سيئ وفيه مغالطات، لأنها المرة الأولى التي يكون فيها الغرب منفعلاً لا فاعلاً ولم يكن له أي دور في ما حصل في تونس ولا مصر واليمن وسوريا، لأن المبادرة كانت من الشعوب بطريقة سلمية إلا ما كان من ليبيا وما يحصل في سوريا بعد مواجهة النظامين المطالب السلمية بالسلاح والعصابات. الأنموذج التركي بين الخلاف والاتفاق كان الأنموذج الإسلامي التركي الموضوع المهيمن على ندوة «الإسلاميون والثورات العربية»، حيث اعتبره بعض القادة الإسلاميين العرب المشاركين وهماً، فيما اعتبره آخرون تجربة ناجحة يجب الاقتداء بها، وقال د. حسن الترابي في هذا الصدد إن الحديث عن أنموذج تركي للحكم الإسلامي قضية مغلوطة ووهم، لأن المشروع التركي لم يكتمل اصلاً، واضاف الترابي ان الحكومة التركية مضغوطة ومحاصرة من طرف الجيش، وبالتالي فإنها تحاول مخاتلة الواقع والتدرج في أسلمة المجتمع كلما أمكنها ذلك وبدون ضجيج، لكن زعيم حركة النهضة التونسية راشد الغنوشي يعتقد ان التجربة الإسلامية التركية في الحكم ناجحة وأنه من من الممكن لإسلاميي العالم العربي انتاج افضل منها بتحقيق المصالحة بين الإسلام والدولة، وتعقيباً على الترابي قال الإعلامي اللبناني عبد الوهاب بدرخان إن النظرة الإسلامية العقائدية تحكم على المشروع التركي من منظور أمانيها وليس من منظور الواقع التركي الذي افرز هذا التوازن الناجح، ويرى بدرخان أن الإسلاميين العرب غير قادرين على بلوغ النجاح التركي لأنهم لم يرثوا دولاً قائمة على المؤسسات والقانون كما الإسلاميين الاتراك، وشارك الأكاديمي التونسي الإسلامي المقرب من حركة النهضة ابو يعرب المرزوقي بدرخان الرأي وقال انه من المستحيل تحقيق ما وصلت اليه تجربة الإسلاميين الاتراك في الحكم في العالم العربي. وعزا المرزوقي ذلك لكون النضوج السياسي الذي حصل للأتراك في عهد كمال أتاتورك لم يحصل في العالم العربي، وبذلك يختلف رأي أبو يعرب المرزوقي كلياً عن رأي رئيس حزب النهضة راشد الغنوشي الذي كان قد ذكر في وقت سابق ان الاتراك استأنسوا ببعض كتاباته في رسم طريق نجاحهم في الحكم، لكن المرزوقي دعا الى تحرير الإسلاميين والعلمانيين العرب على حد سواء من عملية التقابل الحدية التي وجدوا انفسهم فيها، وقال ان الاتراك نجحوا عندما تبين لهم ان المثال الفرنسي في عزل الدين تماماً عن الواقع لن ينال رضاء الشعب، وخلال احدى جلسات الندوة دعا القيادي في حزب العدالة والتنمية المغربي عبد العالي حامي الدين الى الانعتاق من الأنموذج التركي، ومن جهتها قالت الناشطة الاردنية توجان الفيصل إن الإسلاميين الاتراك تحركوا على اساس قاعدة اقتصادية متينة وعيونهم على الانضمام للاتحاد الاوروبي، ما أهلهم للانعتاق من السلفية عكس الإسلاميين في العالم العربي الذين ينتمون إلى مرحلة تاريخية منتهية، ويتصرفون بانفصام مع الواقع وكأنهم خلفاء راشدون معزولون بحسب تعبيرها. ومن جهته يرى المفكر الإسلامي المصري فهمي هويدي انه لا يمكن استنساخ النماذج الإسلامية في الحكم، بل يمكن الاستفادة المتبادلة من بعضها البعض، وذلك بالنظر الى اختلاف التركيبات الاجتماعية والثقافية. وأضاف في معرض شرح رأيه أن العلمانية مثلاً دين في تركيا، لكنها سيئة السمعة في العالم العربي. الخلفيات مؤثرة أيضاًَ ذهب د. حسن الترابي ايضا الى ان لكل بيئة مقتضياتها واحكامها وان كانت الاهداف واحدة بين كل الإسلاميين. وأضاف هناك فارق واسع على سبيل المثال بين اليمن التي لم يتم احتلالها ابدا وبالتالي لم تعش العلمانية اطلاقا وبين تركيا. كما أشار الترابي الى نقطة الارث الثقافي للشعوب، حيث تختلف المجتمعات العربية التي استعمرها الفرنسيون فعلمنوها عن تلك التي استعمرها الانجليز حيث الملكة مازالت رئيسة الكنيسة. وفي هذا الإطار أكد ابو يعرب المرزوقي في كلمته ان الحركة الإسلامية في تونس ستكون مضطرة للتصالح مع نمط المجتمع الذي عاش مرحلة العلمانية، كما اضطر الى ذلك الإسلاميون الاتراك مع وجود الفارق بين خصوصيات المجتمعين. كذلك يرى عبد الوهاب بدرخان ان محاولة فرض نمط حكم إسلامي عقائدي سيواجه الفشل المحتوم في العالم العربي لأن أغلب المجتمعات تلقت جرعة من العلمانية تمكنها من الوقوف في وجه المد السلفي. مناقشات عامة ناقشت الندوة حالات الثورات في كل من المغرب العربي وليبيا واليمن وسوريا، واتفق المتحدثون على أن الإسلاميين يدركون أنهم يمرون بالعديد من الصعوبات التي تعانيها أنظمة الحكم في البلاد التي يسيطرون فيها على مفاصل الدولة، وأن المرحلة المقبلة تحمل العديد من المخاطر بسبب غياب الشورى والديمقراطية وتداول السلطة في العالم العربي. حيث قال عضو الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية المغربي الدكتور عبد العالي حامي الدين في كلمته، إن الموجة الديمقراطية التي تعم العالم العربي جاءت متأخرة، وذلك بسبب جمود المجتمعات في العالم العربي ودعم الغرب للأنظمة المستبدة وتأجيل أي انتقال إلى الأنظمة الديمقراطية. وحض على الاقتباس من التجربة الأنجلوساكسونية القائمة على برامج اجتماعية تتوافق مع الدين. وأضاف أن الإسلاميين قصة لم تكتمل بعد، كما أن الربيع العربي لم يأتِ أُكله حتى الآن، لافتًا إلى أن الإسلاميين انتقلوا من مرحلة التهميش إلى مرحلة القيام بالدور الفاعل وتدبير الشؤون العامة في البلاد التي قامت فيها ثورات الربيع العربي. ومن سوريا قال معاذ الخطيب، رئيس جمعية التمدن الإسلامي وخطيب جامع بني أمية الكبير في دمشق في كلمته، إن التعايش الذي يحدث في سوريا لا مثيل له، حيث تضم أكبر الكنائس كما تضم أهم المدارس الإسلامية، وأنه متى ما اختلف السوريون فإنهم يعودون للائتلاف والتوافق بحكم أنهم شعب متدين ومنفتح على الآخرين. وأضاف أن الشعب السوري خرج من قمقم الوصاية من التسلط الروسي أو من غيره.. ومع بلوغ عدد الشهداء أكثر من 50 ألف شهيد إلا أن الشعب السوري مازال يطالب بالحرية، وقال في هذ المنحى إن الحوار انتهى أوانه ولا تفاوض إلا على رحيل النظام، لأننا سئمنا من الدمار والقتل اليومي. ومن ناحيته أشار القيادي بجماعة الإخوان المسلمين مدير مكتب رئيس الوزراء اليمني شيخان دبعي في كلمته، إلى عمليات الحوار التي سبقت التحول في اليمن، وقال إن القوى الرئيسة هناك توحدت من أجل إدارة الحوار لخروج النظام أو إحداث الإصلاحات المطلوبة، وإن علي عبد الله صالح كان يستخدم الحوار ليس من أجل الحوار بل من أجل كسب الوقت وإحداث المزيد من التراجع للتهرب من الإصلاحات. أما القيادي بتنظيم الإخوان المسلمين بليبيا رئيس مجلس إدارة المركز الليبي للبحوث والتنمية الشاملة السنوسي بسيكري، فقد قال في كلمته إن ثمة إخفاقات واجهتها الحكومة الليبية، مشيرًا إلى أن الملف الأمني مازال عالقًا، كما انتشرت الجهوية في البلاد وتطورت بشكل عقّد الموقف، إلى جانب المشكلات الاقتصادية. وقال إن المؤتمر الوطني أفرز شكلاً جديدًا في إدارة الدولة، وإن هناك نحو مليون و100 ألف قطعة سلاح في أيدي الثوار، كما أن هناك أكثر من 17 ألف قطعة سلاح متوسطة، وفي الوقت ذاته هناك نحو 120 ألف شخص من الثوار يتحركون في طول البلاد وعرضها. ومن مصر قال المفكر الإسلامي فهمي هويدي في كلمته عن المواطنة، إن مصطلح المواطنة جديد في الخطاب العربي والإسلامي، وإن المسلمين عرفوا الوطن والتوطين ولكن كلمة المواطنة التي هي تفعيل لعلاقة المواطن بالدولة، كلمة حديثة، وإن صياغة علاقة المواطن بالدولة في مصطلح المواطنة الذي يقر المساواة بين الجميع ويقر الحقوق والالتزامات في المشاركة والمساواة والحرية الاجتماعية جديدة على ثقافتنا. وأكد هويدي أن الثورة المصرية ليست إسلامية، كما أن الانتفاضة الفلسطينية ليست انتفاضة إسلامية بل هي ثورة شعب، ولا يضيرها أن تكون انتفاضة وطنية، ولا يقلل من شأنها أن يشترك الجميع فيها، فالثورات العربية ثورات عربية صرفة استهدفت تحرير الإنسان واستعادة الكرامة، والإسلاميون شركاء فيها شأنهم شأن غيرهم وعليهم أن يدركوا هذا. رأي الخبراء في الخرطوم تعلقياً على أوراق الندوة قال المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين بالسودان علي محمد أحمد جاويش إن تجارب العالم العربي الاسلامي اثبتت انها كلها تتم وفق ظروف كل بلد وليست هنالك من تجربة كاملة سوى حكومة المدينةالمنورة في عهد الرسول عليه السلام، واضاف جاويش في تصريح ل «الإنتباهة» إن هنالك تجربة حكومة حماس في غزة التى اعتبرها دولة وتجربة علمية يجب التوقف عندها، اذ انها رغم العذاب الذي واجهته الا انها مازالت أنموذجاً، واشار مراقب الإخوان المسلمين إلى أن تجربة الترابي لم تكن النية فيها خالصة، وانه حاول اقامة نظام موازٍ للاخوان المسلمين، وبالنسبة لرعاية قطر وتركيا لدول الربيع الاسلامي، قال إن قطر دولة مرتبطة بالنظام العالمي الجديد، اما تركيا فإن نظامها يسير بخطوات جيدة من اربكان وحتى اردوغان حالياً. وفي الاطار نفسه اتفق عضو هيئة علماء السودان الاسلامي محمد حسن طنون مع آراء المفكرين بأن التجربة التركية استطاعت أن تقيم الأنموذج الاسلامي رغم العلمانية. وان التجربة السودانية خالفت مبدأ الاخوان المسلمين بأن جاءت بانقلاب للسلطة دون أن يأتي بها المجتمع بثورة شعبية، وفي منحى آخر قال طنون ل «الإنتباهة» إن الجماعة السلفية هي في الاصل هيئات دعوية وليست لها تجارب سياسية ناضجة. وفي سياق آخر يقول عميد كلية الاقتصاد والعلوم الاجتماعية بجامعة الخرطوم الاسلامي د. حسن حاج علي إن تجارب العالم الاسلامي اصبحت دراسة حالة اطلق عليها بعض الباحثين «ما بعد الإسلامية» اذ انها تواجه التكيف مع الوضع المحلي الذي له وضع أكبر من وضعيتها العالمية، بمعنى انه لا يوجد قالب واحد يمكنها من التفاعل في مجال الحكم، لذا طالب باجراء دراسة حالة كل تجربة، خاصة أن المصريين بدأوا تجربتهم والسوريون في الطريق اليها حال وصولهم للسلطة، أما أستاذ العلوم السياسية محمد مالكي في تحليله لسياق وصول الإسلاميين لسدة الحكم فقد عزا ذلك التطور إلى كون الناخبين صوتوا لصالح الإسلاميين احتجاجاً على الدولة الوطنية، وأن القوى السياسية «علمانيين، قوميين، اشتراكيين» عجزت عن التواصل مع المجتمع بسبب تقهقرها التدريجي. مشاركون آخرون وشارك في الندوة اغلب زعماء التيارات الاسلامية في بلدان الربيع العربي، منهم نائب مرشد جماعة الاخوان المسلمين الحاكمة في مصر خيرت الشاطر، والمراقب العام السابق للاخوان المسلمين في سوريا علي صدر الدين البيانوني، والامين العام للجماعة الاسلامية في لبنان ابراهيم المصري، وزعيم حزب الوطن بليبيا عبد الحكيم بلحاج، بالإضافة للمثقف العلماني السوري الدكتور برهان غليون رئيس المجلس الوطني السوري سابقاً. أخيراً رغم اتفاق واختلاف وجهات النظر بين ندوة الدوحة ومؤتمر الصحوة في استنطبول، لكن يجمع المشاركون على كون بلدان الربيع العربي تعيش مرحلة انتقالية فارقة، تتسم بالتعقيد وتنطوي على الكثير من المخاوف، وتبعث في نفس الوقت على الكثير من الآمال ربما تظهر نتائجها في الشهور المقبلة.