وصلتني هذه الرسالة من صديقي اللطيف الرجل البسيط «سعاتو» تاج الدين.. والذي يعرف شغفي بالبيئة ويعرف حزني على ذلك الفيل الذي تم رفعه إلى الشاحنة عبر «الجنازير» لتتمزق أحشاؤه وينفق بعد أيام.. وهو رجل خبير بيئي وخبير بالحياة البرية.. بسم الله الرحمن الرحيم * وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * «45 النور» أستاذنا وأخانا الصغير المكرم: ياسر حسن خضر سلاماً وتحية واحترام لمعرفتي التامة بولعك الشديد بالحياة البرية وشأن البيئة عامة وددتُ أن أستأذنك في اتخاذ أحد «نواصي الحديث» متكأً أحدِّث من خلاله قراء «الإنتباهة» الغراء عن موضوع أرى أنه يمثل أهمية بيئية واقتصادية وترفيهية وتعليمية وهو حدائق الحيوان، وقبل أن أبدأ أود أن أقرِّر هنا أنني لا آبه للأصوات والهمهمات التي ستتصاعد وفحواها «الناس في شنو وال ... في شنو» ولا أدري إلى متى تنتظر سياسة السودان لحلحلة مشكلاتها السياسية والأمنية حتى تلتفت إلى شأن الناس ومعاشهم، واسمح لي كذلك أن أوجِّه صوت لوم للإعلام عامة والصحافة المقروءة خاصة لإهمالها شأن البيئة والموارد الطبيعية والحياة البرية وغضها النظر عن تدهور البيئة وزوال الغابات والتصحُّر وتعرية التربة، ولكني أود أن أحصر حديثي عن حدائق الحيوان وعلى حد علمي لا توجد عاصمة في الدنيا أو مدينة ذات شأن لا توجد بها حدائق حيوان مركزية تستوي في ذلك البلاد الغنية بأنواع الحيوانات البرية وتلك التي لا توجد في بيئتها غير رمال الصحراء، بل إن حديقة حيوان تعمل على تهيئة البيئة المناسبة لحياة حيوانات من بيئات أخرى بعيدة لكي تضمن تمثيل جميع أنواع الحياة البرية في بقعة واحدة، ومن هنا تأتي فوائد حدائق الحيوان، فهي أولاً تعمل كوعاء ضخم للأبحاث والدراسات المقارنة.. وتخدم طلاب الدراسات والجامعات ومراكز الأبحاث، ثانياً دورها الترفيهي فترتادها الجماعات والتجمعات والأسر والأفراد وطلاب المدارس والأطفال للاستجمام ومراقبة سلوك الحيوانات وبذلك تلعب دوراً تربوياً وتعليمياً، أما الثالثة فهي الفائدة الاقتصادية باعتبارها من أنجح الاستثمارات فهي تنعش دخل الولاية أو المدينة وتدرُّ أرباحاً مقدرة للمستثمرين وكذا الحال في تشغيل العمالة المحلية وجلب العملات الحرة من عائد بيع حيواناتها الزائدة عن الحاجة، ورابعها الحفاظ على بعض الأنواع النادرة وتلك المهددة بالانقراض في بيئاتها الطبيعية بشتى العوامل.. الصيد الجائر.. دمار بيئي.. إهمال وغيره!! قلت إنه لا توجد دولة في العالم ليس بها حديقة حيوان مركزية إلا السودان التي أخذت تستبدل أشجارها شيئاً فشيئاً بغابات الأسمنت الكئيبة. فبعد إزالة حديقة الحيوان بالخرطوم وقيام غابة أسمنتية أجنبية الاسم والملامح في مكانها انتهى عصر حدائق الحيوان في السودان ولم تفلح المعالجات الفطيرة التي اتُّخذت لإنقاذ حيواناتها بنقلها إلى حدائق أبريل والقرش... وغيرها. أٌنشئت حديقة الحيوان بالخرطوم عام 1902م. وتم تدميرها عام 1992م. والذين يبلغون العشرين من أعمارهم من أبنائنا ومن هم دونهم لم يشاهدوا حديقة الحيوان بل إنني أكاد أجزم أن نصفهم على الأقل لم يشاهد أي حيوان بري سواء في الحبس أو على الطبيعة. كانت مساحتها «25» فداناً تقلصت إلى «23» فداناً وذلك لقيام فندق السودان في الجزء الشمالي الشرقي منها أيام حكم الفريق عبود.. فكانت تُحدّ من الشرق بفندق السودان والفندق الكبير «فكتوريا» ومن الشمال النيل الأزرق حيث كانت تروي كل المسطحات الخضراء منه، ومن الغرب قاعة الصداقة ومن الجنوب إدارة الكهرباء بمسمياتها التي «لا تستقر» فمحلها يحتله اليوم برج الفاتح. ولا أدري ماذا أسموه الآن. كانت الحديقة تضم أنواعاً وفصائل مختلفة من حيوانات العالم وبيئاته المتنوعة فمن الثديات كان هناك الباك الصيني والشمبانزي والدب الأسمر وهي ثلاثة دببة أهداها الرئيس اليوغسلافي تيتو للرئيس عبود وأذكر أنها كانت تتمتع بحظيرة مغلقة ويجري فيها الماء بانسياب واستمرار لكي تخلق بها جواً بارداً وقد عمرت حتى نهاية الثمانينيات ومن حيوانات البيئة الإفريقية كانت توجد معظم أنواع الغزلان مثل التيتل، الكتمبور، أبو عرق، النلت، الحمراية، الغزال العارة، الغزال أم سبر ومن الثديات الكبيرة الفيل الإفريقي، وحيد القرن، الزراف، حمار الوحش، الجاموس ومن الثديات المستجلبة من أوربا كان يوجد كلب البحر في بحيرة في منتصف الحديقة وكذلك الأصلة وأبو نضلاف وأبو قرف والورل والتمساح ومن ثديات الماء القرنتي «سيد قشطة» ومختلف أنواع الطيور مثل النعام، أبو ذرلق، البشروش، دجاج الوادي، الصقور والنسور... ومنذ أيام الإنجليز كان بها أنواع نادرة من الأشجار المحلية مثل التك والمهوقني واللبخ والمستوردة مثل النخيل الملوكي كما كان بها مشتل صغير. كل هذا ضاع بالتسرع في القرارات الخاطئة والنظر من ثقب المصالح الضيقة التي لا تخلو من آفة الفساد. كل ذلك دون التفكير في البديل.. والغريب أن البديل كان جاهزاً متمثلاً في دراسة جدوى متكاملة ومجسم بأبعاد «80 * 120» سم مصمَّم في لندن بواسطة «مستر روبرتسون» ويشمل كل مساحة غابة السنط الحالية والمساحة ممتدة حتى جنوب كوبري أمدرمان القديم ولو نُفِّذ هذا المشروع لتغير وجه العاصمة. مايحزنني ويحز في نفسي أن حديقة الحيوان قد أُزيلت دون أن تتلقى أي تعويض عن أرضها أو حيواناتها أو مبانيها أو أشجارها وهي اليوم بالمليارات باعتبار أن تقييماً حكومياً رسمياً قدرها عام 1993م بستة مليارات، فأين ذهبت وكيف بيعت ومن له حق بيعها ومن أين اكتسب هذا الحق وما هي صيغة الانتفاع للوضع الحالي هل هي ملك أم حكر وكم مرت وأين العقود القانونية، إنني أدعو صراحة إلى فتح تحقيق شامل في هذا الموضوع بغض النظر عن تأثير ذلك على العلاقات مع أي دولة، فهذه حجة مردودة وهذا شأن عام. أكتب هذه الكلمات لا تحسراً على لبن مسكوب ولكن لأنتقل من القول إلى مربع الفعل وذلك باستعدادي ومعي إخوة كرام لإعداد دراسة جدوى فنية واقتصادية لإنشاء حديقة حيوان على نمط عالمي ومستعدون للتعاون في ذلك مع شرطة الحياة البرية وولاية الخرطوم وإنني أرجو أن تكون قد ضمنت مثل هذا المشروع في خريطتها الهيكلية، وقد سبق لنا أن فعلنا ذلك مع منظمة سودانية تملك مزرعة ضخمة جنوبالخرطوم ولا أدري أسباب عدم تنفيذها. فريق أول شرطة تاج الدين ساتي عبد الحفيظ