لعل القارئ الكريم.. وأهل الشمالية خاصة يتذكرون حدث غرق وادي حلفا الذي دفع أهل الشمالية إلى الرحيل وحمل القطار سكانها إلى الجنوب وعيونهم تدمع وهتافهم يملأ الأفق «حلفا دغيم ولا لبنان» وكان رحيلاً جماعيًا ولم يكن أهل حلفا القديمة يظنون أن لبنان الذي فضلوا عليه وطنهم الواقع بين النهر والجبل لم يكونوا يظنون أن لبنان أيضًا قد انتقلت إليه جرائم عدوى الرحيل.. فالمواطن فيه إما مهاجر أو مقتول!! عدوى الرحيل ويالها من عدوى تترك غصة في الحلق ووجعًا فى القلب عبّر عنها الفنان حمد الريح: ياحليل الراحو خلو الريح تنوح فوق النخل ياحليل الفاتو لدار الأهل بدون أهل وأيضًا غنى فنان الشمال عثمان عبد الرحمن اليمنى ورددت لحنه كل القماري والحواري والأزقة والبساتين في أرض كانت ومازالت منبعًا للكلمة الجميلة التي تحلق بأجنحة الخيال.. لكنه الخيال الذي يتحول إلى واقع.. كان الرحيل هو البعبع المخيف الذي يجعل الأحلام والآمال على شواطئ الحزن وهى تنتظر سفينة تبحر بها إلى بقاع أخرى مهما غردت عصافيرها وتدلت غصون برتقالها فإنها عاجزة عن الحلول في قلب المفارق لوطن الطفولة والصبا والشباب. دفع الشمال ثمن الرحيل كثيرًا.. وإذا كانت حلفا قد غرقت لتعطي الجزء الشمالي من وادي النيل حق الحياة فتطاول السد العالي في مصر ليروى المزيد من الأرض لإطعام المزيد من الأفواه الشقيقة إذا كان هذا قد حدث، إن ضيق الأرض سيظل هو الباعث الأساس للرحيل عن الوطن والدار والأهل. إن الأرض في الشمال عزيزة وغالية ولما تضيق المساحات وتعجز تلك التي كانت توفر القوت للأجداد والآباء وتعجز عن سد حاجة الأحفاد يكون الرحيل أمرًا حتميًا وتحزم الأجيال الجديدة حقائب السفر بحثًا عن وظيفة فى المدن الكبرى أو في ديار الغربة.. يرحلون لأن التوسع على حساب الصحراء ليس بالأمر السهل اليسير فالسواقي التي كان يجرها الثور القوي في الماضي لا تستطيع الآن جذب مياه أعماق الصحراء والتي تحتاج إلى وابورات عالية الجودة غالية الثمن وهذه لن تأتى إلا بالدولار والريال والدينار!! يحزمون حقائب السفر يسافرون في الثلث الأخير من الليل ربما خوفًا من أن تفضح دموع عيونهم أضواء النهار.. ولكن الحنين إلى التراب يمزق كل ستر الظلام وبين صياح ثعلب في البساتين الكثيفة والأشجار ومواء القطط ونباح الكلاب يتسلل، وفي هذه المرة لشاعرنا الرهيف السر عثمان الطيب: لو عطش يسقيني نيلكوأكلي من ثمرات نخيلك لونسيت مابنسى مرهعشت كيف في الغربة مرة لقد غنى الكثير لفجيعة الرحيل ولكن لابد مما ليس منه بد.. إن الأرض تضيق والتوسع على حساب الصحراء يحتاج إلى مال ويحتم هجرة الأحفاد.