بصراحة، مهما كان من الأمر، فالاستعمار شكل من أشكال العبودية، ومهما نحكي عن عهد الإنجليز سلباً أو إيجاباً فلا أظنُّ أن عاقلاً يريد أن يُستعبد ويُذل ويُهان ويُنهب... والله خلقنا أحراراً... اقتص عمر بن الخطاب «رضي الله عنه» عنه لقبطي نال منه ابن من أبناء عمرو بن العاص والي مصر، وقال ابن الخطاب قولته الشهيرة «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟». مع ذلك هناك إجماع على أن المستعمر البريطاني أرسى نظماً إدارية عظيمة وانضباطاً في الخدمة المدنية والعسكرية... ليس حُباً في السودان والسودانيين....بل طمعاً في تمكينه وتشديد قبضته.... وامتصاص خيراته وعرق جبين عماله ومزارعيه....والآن.... مَن منّا مَن لم يتندّر ويضرب المثل بمواعيد الخواجات «شوكة وشنكار»... ومواعيد السودانيين «ناس تعال بكرة أو بعد بكرة» وناس الموظف خالتو ماتت وما معروف يرجع متين. شيّد الإنجليز خطوط السكة الحديد التي شقت السودان شمالاً وجنوباً وغرباً وشرقاً.... متخذة من عطبرة مركزًا.. من أكبر مثالب العهد المايوي هو تحطيم السكة الحديد.... ومنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم نكرر الأسطوانة المشروخة لا بديل للسكة الحديد إلا السكة الحديد. لقد خدمت السكة الحديد في ترحيل المنهوبات السودانية للخارج وترحيل الموظفين العاملين لإدارة الشأن الاستعماري في بقاع السودان...انهارت السكة الحديد بالسودنة فلم تعد هناك قطارات تنقل الركاب والبضائع إلا ما ندر.... لم يعد هناك سناطور....انهارت مصلحة المرطبات... وانهار مصنع الثلج والبرادات.....لم نعد نرى عم الزبير لابساً الأبيض... يربط في منتصفه الشريط الأخضر.... من منّا يصدق أن القطار كان به عربة بوفيه يخدم فيها عم الزبير.... يقدِّم فيها الشاي في الطقم الصيني...ومعه البسكويت.. والسمك الفرايد في الفطور..القطار كان حياة لسكان المحطات الصغيرة.. ينقل المياه النقية من المحطات الكبيرة إلى المحطات الصغيرة والسندات.... الركاب المسافرون يشترون من المحطات سندوتشات الطعمية... والجني جداد «البيض» والجوافة والمنقة والموز والقريب والبرتقال.. والسمك المحمّر من محطة الشوك وكوستي.. واللبن المقنن والزلابية«الليقمات» في أبوحمد بعد صلاة الصبح.. كم من صداقات وتعارف بين أفراد وأسر تمت خلال صحبة السفر بالقطار.. لم نعد نسمع صافرة القطار.. لقد حبس صوته.. «من بف نفسك يالقطار... قطار الشوق متين ترجع تودينا... هل ننتظره ... أم أن قطار الشوق مااااات... وقبرناه؟؟!!. ترك الإنجليز لنا مشروع الجزيرة العظيم الذي بُني في زمان لم يعرف الكمبيوتر... والبرمجيات الحسابية الآلية كانت حلم... لقد ُصمم المشروع بعمليات هندسية «باليد» بحيث تنساب المياه في لوحة لا يرسمها إلا فنان سيريالي.... آلاف الكيلومترات تقطعها المياه في انسيابها دون مضخات ولاتوجد«بوسترات» لتقوية سريان المياه من الجنوب إلى الشمال في الترعة الرئيسة.. وبقوانين ... تتجه المياه إلى المواجر والترع الفرعية... ومن أبوعشرينات إلى داخل الحواشة حتى تعانق المياه أبوستات والجداول داخل الحواشة.. ويشرب الزرع... لقد نجح الإنجليز في خطط عملهم وفق إستراتيجيتهم وحققوا الرؤية والهدف من المشروع..... اليوم في الجزيرة الترع موبوءة بالحشائش والأطماء قلل من سعتها المائية... ووصل الحد إلى استخدام الطلمبات الرافعة لنقل المياه من الترعة إلى أبي عشرين.. والعطش فتك بالزرع.. وخرّب البيوت.. وبكى الرجال.. مشروع الجزيرة الذي بُنيت عليه ميزانية السودان.... والسنة المالية تبدأ في الأول من يوليو من كل عام «تاريخ الزراعة»... محافظ المشروع هو المُورِّد للعملة الصعبة والماصعبة لبنك السودان.. مشروع الجزيرة آبار بترول لا تنضب.... لقد خدم مشروع الجزيرة الإنجليز وشغل مصانع لانكشير للمنسوجات في المملكة المتحدة....اليوم أرض المشروع موجودة... الترع موجودة! المياه موجودة.!...الإنسان السوداني في الجزيرة موجود.... الناقصنا شنو!! فكِّروا وتموا الناقص!! هل الحكاية دايرة تفكير!! جرِّبوا وفِّروا الموية....وبس...شوفوا كان تنقدروا. لقد نال السودان الاستقلال في 1956م، وسودنا المشروع والسكة الحديد.... مستر جون ترجّل من الكرسي... وحل محله محمد أحمد السوداني.....لم يستطع محمد أحمد أن يوظف المشروع ولا السكة الحديد للمصلحة الوطنية... هذا مثال لمرفقين.... سبحان الله!!....يخربون بيوتهم بأيديهم. ... هل عَدِم السودان الرجال والهمّة والفكر والمال للإصلاح؟ لا ثم لا...لكن في غياب الخبّاز احترق الخبز!!! البروفسير أزهري عبد العظيم حماده