(منير) و(سيدة) متزوّجان حديثاً.. منير يعمل بالسلطة القضائية بالخرطوم.. وسيدة موظفة بإحدى محليات شرق النيل، لمّا استشرتْ حمى الوظائف والعقودات بالجماهيرية العربية الليبية عقب سقوط نظام القذافي، رأيا أنْ يُهاجرا إلى ليبيا لتحسين أوضاعهما الاقتصادية. حلما بعقدي عملٍ عبر أحد مكاتب الاستقدام المنتشرة هذه الأيام بالخرطوم.. المفاجأة التي لم يتوقعانها كانت في الخمسة عشر مليوناً التي طلبها المكتب للوظائف التي حدد أنها نظراً لعائدها المادي المجزي.. فلم يكن أمامهما غير الاتجاه لبيع كل ما يملكان. (منير) باع قطعة أرضه التي تمنى أنْ يبنيها يوماً من الأيام، ويُنهي عبرها مسلسل الإيجار (المزعج)، أما (سيدة) فقد باعت ما ادخرتْه من ذهب لمواجهة عاديات وصروف الزمان.. ثم جمعا كل هذه المبالغ وسلّماها إلى المسؤول من المكتب ومعه جوازي سفرهما، كان هذا قبل أربعة أشهرٍ من الآن.. ومنذ ذلك اليوم بدأت المشاوير من المكتب وإليه للسؤال عن عقدي عملهما اللذين تأخرا وطال أمدهما.. وفي كل مرةٍ يرد عليهم مكتب الاستقدام بأنّ جوازيهما بالسفارة.. ولمّا يئسا منه واجها المسؤول من المكتب بأنْ يُرجع إليهما أموالهما التي سلّماها إلى المكتب، وحتى قبل أسبوعين كان (منير) و(سيدة) في مطارداتٍ ووعودات من مكتب الاستقدام. ومنذ أقل من عشرة أيامٍ تفاجآ بأنّ مكتب الاستقدام قد أغلق بابه بالضبّة والمفتاح، ووضع جوازيهما وجوازات أخرى لآخرين أمام باب المكتب وعلى الأرض!! ٭ (م،ن،م) لا يختلف حاله عن (منير) و(سيدة) كثيراً، فإنه تخرّج قبل أكثر من ثماني سنوات، وطاف بشهاداته العديد منْ الوزارات ومكاتب الوظائف ولم يفتح الله عليه بوظيفة يستقر فيها.. عمل في العديد من الوظائف الهامشية، باع الأقمشة المستعملة واقفاً على مداخل الأسواق، وسافر ببعض البضائع عدد من الولايات القريبة لكنه عاد في الآخر إلى الصفر، لأنّ أغلب ما يجمعه من أرباح يستهلكه في تذاكر السفر ونثريات حركته، وماتبقى منه يدفعه (مُرغماً) إيجاراً للمحلات التي يضع عليها بضائعه في الأسواق الولائية.. آخر ما استقر عليه (م،ن،م) أنْ يسافر للخارج بحثاً عن رزق له هناك بعد ما أعياه البحث هنا.. بكل هدوء جمع كل ما كسبه من رحلاته التجارية، واستدان من إخوته لإكمال ما تبقى من تكاليف عقد العمل الذي أقنعه به مكتب الاستقدام الخارجي.. لكن حصيلة كل هذا الأمر كان (هباء منثوراً).. فمنذ اليوم الذي سلّم فيه جواز سفره مع المبلغ المالي لمكتب الاستقدام الخارجي ورحلة الذهاب والإياب منه وإليه لم يحدث جديد، وفي خاتمة المطاف اضطر (م،ن،م) أنْ يفتح بلاغاً في مواجهة مكتب الاستقدام الخارجي لكنه تفاجأ في نهاية الأمر بأنّ المكتب غير مرخّص!! ٭ ولصلاح كمال رواية أخرى فهو كان مقيمًا بالجماهيرية العربية الليبية لما يقارب العشرين عامًا وعاد مستقرًا في أرض الوطن وعندما ضاق به الحال مرة أخرى قرر العودة لليبيا خاصة أنه بعد توقف الحرب هناك تواترت إليه الأنباء بتحسن الأوضاع وتوفر الفرص للعمل في شتى المجالات، فحمل أوراقه وأمواله وتوجه صوب إحدى وكالات السفر لإجراء اللازم للعودة لليبيا طمعًا وراء الرزق الوفير وسارت كل الأمور بسلاسة والتمنيات تسبق الوصول بالعمل في إحدى شركات المنشآت هنالك، وعند وصوله إلى هناك فوجئ أنه لا توجد شركة تحمل الاسم الذي اعطى له حتى يتمكن من العمل فيها، فاسودت الدنيا أمام وجهه فحزّم حقائب العودة خلال أقل من شهر يجر أذيال الندم والفشل واليأس بعد أن فقد حصيلة ضمان مستقبل أبنائه دون أن يستفيد من شيء. تصبح قضية مكاتب الاستقدام الخارجي التي تبيع الأحلام لمن يسعون وراءها دون تفكير متعمق أحد أسباب الهجرة التي تفرض نفسها قسرًا على الشباب وأرباب الأسر سعيًا نحو وضع أفضل، والهاجس الذي يمزق اقتصاد البلد بهجرة ذوي الخبرة والكفاءات والتي هي في أمس الحاجة إليها.. في الحلقة الثانية.. ٭ ما هي الأسس القانونية التي يرتكز عليها قيام هذه الوكالات؟ ٭ ما هي الضمانات القانونية التي تتيح لهذه الوكالات جلب العقودات الخارجية للحفاظ على حقوق هؤلاء المواطنين؟ ٭ أين البرلمان المتمثّل في لجنة العمل الخارجي من كل ما يدور من احتيال؟ وهل من قوانين تلزم هذه الوكالات؟