في كل يوم تكبر علامات الاستفهام حول مصير السينما السودانية التي رسم لها المراقبون صورة قاتمة ومصيرًا مجهولاً فسابقاً كانت هناك حركة في معظم دور السينما وإن كانت تقدم منتوجًا غير سوداني وتقوم بعرض أعمال أجنبية فكانت السينما الوطنية وسينما كلوزيوم وسينما الحلفايا وغيرها من دُور العرض المنتشرة في شتى نواحي ولاية الخرطوم ورغم أن العروض المقدمة لم تكن أعمالاً سودانية لكن جمهور السينما كان يجد فيها ملاذًا ويشبع رغبته في الاستمتاع بالعرض. ومع مرور الأيام أخذت تلك الدور وغيرها، إن لم تكن جميعها بالتلاشي والخبو واحدة تلو الأخرى بطريقة تحتاج إلى كاتب سيناريو مقتدر ليكتب عن نهاية تلك الدُّور التي أصبحت الآن أطلالاً ولم يبقَ منها غير شاشة العرض الصامدة أمام تحديات الزمن وأنقاض الكراسي المتناثرة في بهو المكان ولقد كانت الخرطوم العاصمة في ذلك العصر الذهبي الجميل تعج بدور السينما حيث بدأ إنشاء دور العرض السينمائي في السودان في العشرينيات من القرن الماضي ومن ضمن تلك الدور السينمائية والتي ولدت مبكرًا كانت سينما الجيش (النيل الأزرق) وسينما برمبل (قديس) بأم درمان ثم سينما كلوزيوم وكانت توجد في شارع الجامعة في مقابل مكتب البريد والبرق قبل أن تنتقل إلى موقعها الحالي (شارع القصر). وكانت هذه الدور (السينمات) يملكها أجانب. ٭ شركة السينما: وفي العام (1942م) أُنشئت شركة السينما السودانية بواسطة مساهمة من مواطنين سودانيين وأُنشئت العديد من الدور مثل سينما (أم درمان الوطنية) وسينما (بانت) و(السينما الوطنية الخرطوم) وسينما (غرب) و(الوطنية الخرطوم بحري) و(الوطنية) بالقضارف وسينما (نيالا). بينما كانت تتبع سينما كلوزيوم وسينما أم درمان وسينما حلفايا وسينما النيلين لشركة ليكوس لاستيراد وتوزيع الأفلام وهي شراكة بين ليكوس وجابر أبو العز. وبعد العام (1970) تم تشييد دور عرض خاصة مثل سينما (الثورة) بأم درمان لأصحابها السنوسي حسين النعيم وعوض أبوزيد وبشير الشيخ والفريق توفيق خليل وآخرين. وتم تشييد سينما (الوحدة) بكوبر ببحري بواسطة جعفر قريش وآخرين كما أن سينما (الصافية) قد شيّدها عبد القادر حاج الصافي. وفي العام (1967م) اشترى السنوسي حسين النعيم وآخرون من الخواجة (ليكوس) سينما (حلفايا) وسينما (النيلين) وسينما (بورتسودان)، وبذا أصبحت كل دور العرض السينمائي يملكها سودانيون. ٭ أيام ..!! غير أن سينما (العرضة) بأم درمان كان يملكها (جورج عبدالمسيح) وآخرون ثم اشتراها منه (الياس شبو) في التسعينيات والآن اشترتها إحدى شركات الزراعة لتحويلها إلى مخازن!!! وكانت الدور في ذلك الزمن الجميل مجهزة بطريقة ممتازة وكانت معدات العرض للصورة والصوت ممتازة كما أن البيئة داخل السينما كانت جيدة وكذا الخدمات حتى أنه كان يوجد في (اللوجات) أجراس تمكن رواد السينما من طلب الخدمات من بوفيه السينما، وكان أحيانًا يتم الحجز للأسر بواسطة التليفون. ولقد كانت مدن العاصمة القومية الثلاث الخرطوم وبحري وأم درمان تمتلك كل على حدا دورًا للعرض السينمائي بلغت في مجملها (18) دار عرض ومعظمها أُنشئت في فترة الستينيات ومنها في الخرطوم كانت سينما النيل الأزرق (الجيش) وكلوزيوم والنيلين ومايو وسينما غرب وسينما جنوب وقاعة الصداقة وأخيرًا سينما عفراء، وفي بحري كانت سينما الصافية وحلفايا والوحدة كوبر والوطنية، وفي أم درمان كانت سينما الوطنية وسينما أم درمان والعرضة وبانت والثورة وقصر الشباب والأطفال، معظم هذه الدور باستثناء سينما قصر الشباب والأطفال وقاعة الصداقة وعفراء متوقفة تمامًا وأصبحت أثرًا بعد عين وانتهى بها الأمر إلى أن تكون أطلالاً مهجورة ولست في حاجة لكي أوضح حالها الآن فهو معروف للجميع، ومن المعروف أن هناك أسبابًا قد أدت بالسينما في السودان الى هذه الدرجة التي تتعدى حد الأزمة إلى الكارثة فهناك جملة من الأسباب لخصها السينمائي الراحل جاد الله جبارة في مقابلة له في التسعينيات من القرن الماضي؛ أن فشل صناعة السينما في السودان يرجع إلى العقلية المتخلفة التي جاءت بعد استقلال السودان إذ لم توجد لديها سياسة واضحة ولم تكن تملك حلولاً لقضايا الثقافة ومن ضمنها السينما. وأرجع جبارة في مقال له بداية التسعينيات تدهور حال السينما إلى اتجاه الدولة لتوظيف عدد ضخم من العاملين الذين كانت كل مؤهلاتهم تنحصر في «صلات القربى» بكبار المسؤولين حتى بلغ العدد «160» شخصاً كانت رواتبهم تكفي لإنتاج فيلمين أو ثلاثة أفلام على أقل تقدير بمعايير ذلك الزمان، وأضاف جبارة أن كل الحكومات لا ترى في السينما قضية ولا تعتبرها مهمة عكس الدول الأخرى التي تقوم ليس فقط بدعم الإنتاج السينمائي. ولكن أيضًا بتحفيز كل الذين يشاركون في صناعة السينما. ويرى كاتب السيناريو والذي فضّل عدم ذكر اسمه أن هناك أسبابًا عديدة أدت لوصول السينما في السودان إلى ما هي فيه من تدهور وصل حد الأزمة بل أكثر من ذلك، وأول هذه الأسباب أن مشروع حكومة الإنقاذ الذي جاءت به المشروع الحضاري قد حارب السينما وصناعتها ويظهر ذلك جليًا في إهماله للإنتاج السينمائي وتصفيته لمواعينها إضافة إلى إهماله لدُور العرض السينمائي حتى وصل بها الحال لأن تكون أوكارًا مهجورة ومتهالكة فكم من مدينة أو ولاية في السودان بها سينما وطنية بيعت وصودرت ممتلكاتها! ويرى كاتب السيناريو أن الإنقاذ قد حاربت السينما وصناعتها خوفًا من تأثيرها في توعية وتثقيف الشعب خاصة أن هناك شعارًا مرفوعًا في السابق من السينمائيين هو إحلال الفكر محل الإثارة إضافة إلى القلق السياسي الدائم للحكومة تجاه السينما والذي ما زال سائدًا وضرورة تجفيف صناعتها! وبنظرة بسيطة ستجد أنه لو كان هناك أدنى اهتمام من قبل الدولة ومؤسساتها المعنية بذلك الفن لما كاد الإنتاج السينمائي يكون معدومًا أو غير موجود على امتداد العقدين الماضيين فكم من المهرجانات قد أقيمت شعرًا ومسرحًا وموسيقا وكتابًا لكن لم نسمع يومًا عن مهرجان سينما!!