لأول مرَّةٍ على مدى رُبعِ قرنٍ أكتُبُوأنا «خائف».. نعم ..خائفٌ ليس على هذه النفس الفانية، ولا على هذه الدنيا التافهة أو شيءٍ من متعلقاتها، ولكن على مشرُوعٍ فديناهُ بالكثير من أنفُس شباب هذه الأمة، وبالكثير من تضحيات الآباء والأمهات .. مشروع «الدولة القوية المحترمة».. مشروعٌ لا ضير أن نختلف على مدى ما تيسر لهُ من نجاحٍ أو مدى ما تيسر لقادته من صدقٍ، ولا تقوم القيامة حتى وإن اعتَرَى الفسادُ بعض مؤسساته أو غرَّت الدنيا بعض متنفذيه، ولكن تقومُ القيامة حقاً حين تبلغُ الريبةُ موضعاً وحيداً فيه.. القضاء.. إن الخطر الحقيقي على «الأمن» العام، ليس في الغزو الخارجي، وليس في الاستهداف الأجنبي، لأن من شأن الدولة بمؤسساتها المعنية، بل من شأن الأمة بمختلف قطاعاتها، أن تتصدى للغزو وللاستهداف بكل ما أوتيت من قوةٍ ومن إيمانٍ ومن صدق، ولن يخزي الله أمةً توفر لها الإيمانُ والصدق .. ولكن الخطر الحقيقي على الأمن، ذلك الذي يمسُّ كل فردٍ في الأمة، هُو الخوف من ضياع العدل، هُو افتقادُ الثقة في المؤسسات العدلية، هُو أن يأمنَ الظالمُ ويخاف المظلوم!!.. وأمامي حكايةٌ تُنذِرُ بتلك الكارثة، تمنيتُ أن تكون من نسج خيال صاحبها، ولكنهُ خذل أمنياتي بما يحمل من شواهد ومن مستندات، بل ومن وثائق صحافية حيث تصدت لقضيته الصحافة منذ سنوات، دون جدوى.. ومع أن مفهوم مصطلح «حصانة» الذي يعني حماية حامله من التعرض للتحقيق أو المساءلة القضائية إلا وفق إجراءاتٍ بعينها هُو مفهُومٌ متعارفٌ عليه عالمياً، بشأن بعض المناصب الدستورية أو الدبلوماسية، ولكن الحكاية التي بين يدينا تحملنا حملاً على طرح هذه التساؤلات: هل تعني «الحصانة» أن يظلم المسؤول «المحصَّن» من شاء دون أن يسألهُ أحد؟؟ قالوا : لا .. بل من حق المظلوم اللجوء إلى القضاء بمظلمته، ومن حق القضاء، أو المدعي العام، أو النائب العام، أن يرفع الحصانة عن المُدَّعَى عليه متى ما اقتنعُوا بوجاهة الدعوَى.. حتى هُنا الأمرُ مقبولٌ، ولكن.. أمامنا قضيةٌ جَرى فيها ما يلي: وقع ظُلمٌ على مواطن، من «رئيس المجلس التشريعي» في إحدى ولايات السودان، فلجأ المواطنُ إلى القضاء في ولايته، وتم مباشرة رفع الدعوى ضد «فلان بن فلان» دون ألقاب، فتمت التحريات اللازمة واكتمل ملف القضية، أمر وكيل النيابة بالقبض على المُدَّعى عليه «بالإرشاد»، فاصطحب الشرطي المكلف، المدَّعي، ولكن الشرطي اكتشف، حين وصل برفقة صاحب الدعوى إلى مكان المدعى عليه، أنه جاء في الحقيقة ليلقي القبض على «رئيس المجلس التشريعي»، فعاد إلى وكيل النيابة، الذي ما إن علم الحقيقة حتى قام بتمزيق الأوراق، ثم نصح الشاكي بأن: «يشوف ليهو شغلة»!! فال«مُتَّهَم» من ذوي الحصانة، وليس من صلاحيات وكيل النيابة ذاك رفع الحصانة عنه.. إلى هُنا، توكَّل الأخ بشير محمد احمد، وذهب بالفعل «ليشوف ليهو شغلة»، ولكن في الخرطوم، فمضى الرجُل توَّاً إلى المُدَّعي العام، الذي استمع إليه باهتمام، ثم حرر خطاباً إلى نيابة تلك الولاية طالباً أوراق القضية، التي ما إن وصلت حتى وضعت أمام لجنة من كبار المستشارين، عكفوا عليها شهراً ثم أصدروا قرارهم برفع الحصانة عن المدعى عليه وعن بعض معاونيه، وتناولت الصحافة في ذلك الوقت القضية واعتبرت مجرد رفع الحصانة عن مسؤول كبير نصراً للعدالة، ولكن المدعي سرعان ما تعرَّض «للأجاويد» والترغيب والترهيب بغية تنازله عن الدعوى، غير أنهُ لم يتزحزح قيد أُنملة .. حتى هنا والأمرُ مطمئنٌ إلى مصير العدالة .. ولكن.. أصدر وزير الدولة بالعدل آنذاك قراراً بإلغاء قرار المدَّعي العام برفع الحصانة عن المتهم، و«تعويض» المدَّعي!!.. الذي لم يطلب تعويضاً بالأساس، بل طلب أن يَمثُل من ظلمهُ أمام القضاء، ويُحاكم كما يُحاكم بقية خلق الله.. الأخ بشير محمد أحمد، الذي لا يطمعُ في دولةٍ يقاضي فيها العوام خليفة المسلمين فيقفُ الأخير أمام القاضي بطيب نفس، ولا يطمعُ في تطبيق «الشريعة» كما عرفتها دولة الإسلام الأُولى حيث لا حصاناتٍ ولا مقامات أمام القضاء، يبدُو مع ذلك متفائلاً بأن الحد الأدنَى من احترام العدل، الحد الذي يحدث حتى في بلادٍ لم تعرف الإسلام، مأمُولٌ فيه، ويرجُو أن تُردَّ إليه مظلمتهُ، ولن يحدث ذلك إلا برفع الحصانة عن خصمه الذي ما يزالُ يتمتع بالحصانة .. هذا والله اختبارٌ حقيقيٌّ لأولوية العدل واستقلال القضاء.