قابل إثيوبي دينكاوياً فبادر الإثيوبي الدينكاوي بالسؤال: «إنت لسه قاعد هنا»؟؟! هذه طرفة يتداولها الناس فيما بينهم بالسخرية التي عرفوا بها ويتبادلون الضحكات ولكن إن تمعنت عزيزي القارئ في المغزى فستتألم كثيراً، إذ أصبح الأغراب هم أسياد البلد، هل بدأ مخطط جون قرنق الذي أفصح عنه بما سماه الإحلال والإبدال هل بدأ يدخل في طور التنفيذ؟! هذه الطرفة إذا تم تشريحها وتحليلها لوجدناها ذات أبعاد خطيرة، تنبئ بمستقبل مظلم لهذه البلاد. وسبب هذا انعزال أنظمة الحكم التي توالت على السودان عن المواطن حتى تدنت الروح الوطنية إلى أدنى مستوى تعبر عنه المقولة البغيضة «ملعون أبوكي يا بلد»!!. انعزال نظام الحكم عن شعبه والسياسات المطبقة هي التي انحدرت بالحس الوطني إلى هذا المستوى. كما أن الطغيان الذي يلد الفساد له الدور الكبير في تدني الروح الوطنية عن المواطنين!! وضع كهذا يطمع الآخرين في أراضينا وديارنا وهذا ما وضح في النوايا الإريترية وأطماعها التي وصلت إلى كسلا، وكثير من أراضي السودان كحلايب والفشقة وغيرها تحت إدارة الدول التي تجاورنا!!. لماذا لا ينتج المواطن السوداني، هل لأنه غير منتج حقيقة كما يقول بعض فلاسفة النظام؟! كلا هذا مردود عليهم، فالتاريخ القريب يقول إن السودان كان ينتج محصولين في العام من الذرة وهي المحصول الغذائي الإستراتيجي وكان ذلك يتم وبطريقة بدائية ورغم ذلك كان الإنتاج أضعاف ما ننتج اليوم، وكانت أغنى دول المنطقة اليوم، تستقبل المراكب السودانية والتي أطلق عليها مراكب الخير..!! ولأن الشعب السوداني كان منتجاً، كان دولاره يعادل ثلاثة وثلاثين قرشاً أي أن الجنيه الذي فقد ظله اليوم كان يعادل ثلاثة دولارات، لا تستغرب عزيزي القارئ فقد عشت في ذلك الزمن، وقد كنت أدرس خارج البلاد في ستينيات القرن الماضي وكنت أحول الجنيه السوداني بأكثر من جنيه استرليني وبعد أن انتقل للسودان إلى التعامل بالدولار كان التحويل يتم بقيمة الدولار ثلاثة وثلاثين قرشاً!!. وأذكر ذات مرة كان لدي مبلغ عشرة دولارات بعد عودتي، وذهبت إلى البنك بعد أن احتجت للعملة المحلية واستبدلتها وكنت في قمة السعادة لامتلاكي مبلغ ثلاثة جنيهات وثلاثين قرشاً كانت بمثابة ثروة بالنسبة لي!! من محطة السكة الحديد بالخرطوم كان يتجه يومياً إلى بورتسودان واحد وعشرون قطاراً محملاً بالمحاصيل من حبوب زيتية وذرة ودخن وصمغ عربي وقطن ومواشي مصدرة للخارج يتم هذا يومياً أي أن نحو ثلاثين ألف طن تتجه يوميًا إلى الميناء، وترد إلى الخرطوم أيضاً يومياً ذات العدد من القطارات من بورتسودان.. في أكتوبر من العام أربعة وستين كان هناك إضراب سياسي عام في كل السودان ولمدة تجاوزت الأسبوع، لم يحس أي مواطن بأزمة في أي من المواد ضرورية كانت أم كمالية فالمخزون الإستراتيجي لكل مدينة أو مديرية كان يكفيها لفترة طويلة دون حدوث أي أزمة!! وجاءت بعد ذلك الأفكار الاقتصادية الهدامة كالاحتكار والتمكين، واختفت الشركات المتخصصة في الاستيراد والتصدير بفعل المصادرات والتأميم وبدأت الحالة الاقتصادية في التدهور والانحدار حتى وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم!! المفهوم الذي يقوم عليه التمكين اليوم هو مفهوم مغاير تماماً لمفهوم التمكين السامي، والآية الكريمة أو بالأصح الآيات تدعو بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتمكين يعني بناء نظام اجتماعي معافى يطبق العدل وينشره بين أفراده!! أما التمكين الذي نرى ونعيش فهو ذات النوع من التمكين الذي حاربه الفاروق عمر عليه رضوان الله، فقد سمع مقولة تقول «إن السواد بستان لقريش وأمية» جمع الناس في شعب الحره وخطب فيهم قائلاً: «إن قريشاً يريدون أن يجعلوا من مال الله معونات على أنفسهم، أما وابن الخطاب حي فلا وأني واقف عند شعب الحره ممسكًا بتلابيب قريش على ألا يتهافتوا في النار»..! وقد قام بتحرك عملي فكان من قريش وحدها ثلاثة وثلاثون والٍ فقلص هذا العدد إلى ثلاثة فقط!! واليوم ومن قرية صغيرة جداً سبعة وعشرين منصباً دستورياً، ولو حسبنا عدد الخريجين من هذه القرية لما وجدنا ذلك العدد..!! التمكين الذي طبق ليس ذلك الذي يدعو إلى مكارم الأخلاق إنما للهيمنة الاقتصادية والاحتكار وهما اللذان حرما المواطن من الإنتاج، ولكن فلاسفة النظام الذين حرموه نعمة الإنتاج هم الذين يتهمونه بعدم الإنتاج!! تحول الاقتصاد إلى اقتصاد ريعي يعتمد على البترول والذهب وهذه ثروات بائدة قد تنفذ في فترة وجيزة وحينها يكون استخراجها غير مجدٍ اقتصادياً، ونحن الآن نعيش مأساة الاعتماد على البترول، واليوم ظهر الذهب فانتقل المواطنون إلى صحاري السودان ينقبون عن الذهب بالطرق البدائية، وفي بادئ الأمر كانت الدولة تحاربهم رغم أنهم خاطروا وذهبوا لصحاري مجهولة ولم يكلفوا الدولة جنيهاً واحداً، وحين رأت الدولة خطأ سياستها سمحت للمواطنين بالتنقيب وبدأت في شراء المعدن منهم، وقد توقف هذا في الآونة الأخيرة، وهذا الأمر يقود إلى التهريب. مخزون الذهب لدى البنك المركزي يمثل أكبر ضامن للتعاملات بين السودان والمؤسسات الاقتصادية العالمية!! يقول البنك المركزي إن سعر الذهب قد ارتفع كثيراً في الداخل، فما الذي يضير البنك المركزي الذي يطبع العملة دون أية تغطية. فالبنك المركزي أصبح هو التاجر يجمع الذهب ويبيعه في الأسواق العالمية، بينما مهمته تتركز في ضبط وتوجيه التجارة وليس ممارستها!! هذا الوضع سلب من البنك المركزي أهم ما يميز البنوك المركزية الضمان.. لا أحد يأخذ بضمان بنك السودان، الصين التي أغرقت السودان بالقروض كانت تعتمد في ذلك على ضمان البترول وفي كل المعاملات!! والضمان لا يأتي من فراغ بل مما لديك من مدخرات من عملة صعبة ومخزون من المعدن النفيس كل هذا غير متوفر؛ لأن السواد أصبح بستانًا للتمكين الذي حل فيه مكان قريش وأمية أخوانا وأولادنا!!.. وتاهت بين هؤلاء الأغلبية العظمى من الشعب السوداني!! في وضع كهذا وجد الإثيوبي لنفسه الحق في سؤال الدينكاوي «إنت لسه قاعد هنا»؟!!.