يبدو أن الضغوط المعيشية والفقر والعوز جعلت كثيراً من الشباب بمختلف مستوياتهم التعليمية يلجون مجالات عمل لا تتناسب مع طاقاتهم وقدراتهم، ذلك بعد أن ضاقت بهم الوظائف ووسائل سبل العيش الكريم، فها هم شباب في ريعان العمر ينتشرون في الطرقات يحملون المناديل وكروت تغذية الرصيد وألعاب الأطفال ومياه الصحة، وغيرها من البضائع الهامشيَّة ذات الربح الذي يقع تحت خط التهميش. تلك الجمعات وفي رحلة بحثها المضني تظل في حالة ترقب لأي تجمُّع من الناس ولو كان بمقدار ما تعده أرقام إشارة المرور عند تنظيم حركة السير.ومن خلال رصدنا لهذه الحركة والتي هي إفراز طبيعي للواقع الاقتصادي لاحظنا أن عددًا كبيرًا من مساجد ولاية الخرطوم يشهد حركة تجارة كبيرة عقب صلاة الجمعة خاصة من هذه الفئة مما جعل تلك البقاع الطيبة تتحول في أوقات ذروة معينة إلى أسواق تقدم للمصلين البارد والساخن والخضر والفاكهة وغيرها فهل تحولت بعض مساجد الخرطوم إلى سوق جمعة في يوم الجمعة؟ مسجد الشهيد في الجمعة الماضية وبمسجد الشهيد بالخرطوم لاحظنا أن أكثر حرفة يمكن ممارستها هما حرفتا مسح الأحذية وغسيل السيارات، ولعلّ البعض من المصلين يلجأ إلى هذه الخدمة بغرض التأمين، ومن المعروف أن هذا المسجد الذي يؤمه الشيخ عبد الجليل النذير الكاروري عادة ما يأتيه المسؤولون وكبار رجالات الدولة حتى كاد البعض يطلق عليه المسجد الدستوري، إلى ذلك يأتيه عددٌ كبير من الطلاب وبحكم موقعه الجغرافي فإن الإقبال عليه كثير لذلك نلاحظ أن سوق الجمعة فيه يبدأ مبكراً وقبل الأذان الأول، فعند المدخل الجنوبي تجد عددًا من الحاجات بائعات الفول والتسالي والآيسكريم البلدي «داردمه»، والنبق والحلويات المصنوعة يدوياً، وعلى يسارك في ذات المدخل توجد ستات شاي وكأنهن يحملن تراخيص، فالمكان مهيأ من بنابر وكراسي وظل ظليل وغيره. وعند المدخل الغربي وعقب الصلاة تشتد ذروة البيع فيعرض بعض الباعة ملابس شتاء أطفال ولبانًا وسجائر وكأنهم تحولوا من الإستوب إلى المسجد. أرباب العقائد والمسجد الكبير ذات المشاهد تتكرر عند مسجد أرباب العقائد ولكنها لا تتساوى معها في الحجم والقوة الشرائية ولا النوعية، ومعظم الباعة متجولون بما خفَّ وزنُه وبخست قيمته كالنبق والليمون، واللبان. أما في المسجد الكبير فالوضع يختلف، ولعل موقع المسجد الكبير وسط السوق يجعل التفريق بين الباعة الذين يأتون للمصلين في الجمعة وبين المداومين على البيع في هذا الموقع لكن يمكن أن تجد الباعة الذين يحملون السبح والمساويك والخضروات والكتب والأحذية وحتى تجار العملة، فالسوق العربي تتركز صلاة الجمعة أمام المسجد الكبير. وهي ذات المشاهد التي تتكرر أمام المسجد الكبير بأم درمان ولذات الأسباب التي جعلت من موقع المسجد وسط السوق موقعاً إسراتيجياً للبيع. وكذلك في مسجد سيدة سنهوري في شارع الستين بالمنشية حيث تبدأ أصوات باعة الخضروات في التعالي بمجرد السلام والانتهاء من صلاة الجمعة حيث قبل أن يبدأ المصلون الباقيات الصالحات تتصاعد بمكبرات الصوت أصوات «طماطم بأربعة.. بطاطس بخمسة.. موز بتلاتة ...». حكم البيع والشراء في المساجد يقول الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف حول هذه الجزئية إن المساجد تصان أيضاً عن البيع والشراء وجميع الأشغال؛ لقوله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي دعا إلى الجمل الأحمر : «لا وجدت، إنما بُنيت المساجد لما بُنيت له». وهذا يدل على أن الأصل ألا يُعمل في المسجد غير الصلوات والأذكار وقراءة القرآن، كذا جاء مفسَّراً في حديث أنس رضي الله عنه قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي، فجعل يبول في المسجد؛ فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه مه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تزرموه، دعوه»؛ فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن». ومما يدل على هذا قول الله تعالى: «ويُذكَرَ فيها اسمُه»، وقوله صلى الله عليه وسلم لمعاوية بن الحكم السلمي: «إن هذه المساجد لايصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن». وسمع عمر رضي الله عنه صوت رجل في المسجد؛ فقال: «ما هذا الصوت؟ أتدري أين أنت؟!». وكان خلف بن أيوب جالساً في مسجده فأتاه غلامُه يسألُه عن شيء، فقام وخرج من المسجد وأجابه، فقيل له في ذلك، فقال: ما تكلمت في المسجد بكلام الدنيا منذ كذا وكذا؛ فكرهتُ أن أتكلم اليوم. قال ابن الحاج: «ينبغي أن يُمنع من يرفع صوته في المسجد حال الخطبة وغيرها لأن رفع الصوت في المسجد بدعة». وقال ابن حجر رحمه الله في فتاواه: قال الزركشي: «السنة في سائر الأذكار الإسرار إلا بالتلبية». وقال الأوزاعي رحمه الله : «حَمَل الشافعي رحمه الله أحاديث الجهر على من يريد التعليم». وقال ابن الحاج: «ينبغي أن ينهى الذاكرون في جماعة في المسجد قبل الصلاة أو بعدها وفي غيرها من الأوقات لأنه مما يشوش بها». وعن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: «يأتي على الناس زمان يحلقون في مساجدهم وليس همهم إلا الدنيا، وليس لله فيهم حاجة؛ فلا تجالسوهم».وقال بعض الفضلاء إن البيع في ساحة المسجد إن كانت جزءًا منه فلا يجوز. وقالوا إن البيع أمام المسجد جائز لحديث عمر حين اشترى حلةً سيراء من بائع أمام المسجد، فاستدل أهل العلم من إقرار النبي إياه على جواز ذلك الفعل.