التاريخ الإسلامي يحكي أن شاباً ذكياً تقدم قومه بين يدي الخليفة عمر بن عبد العزيز رحمه الله ولكن عمر راعه أن يتكلم شاب صغير بين يدي رجال شيوخ، فقال: يا غلام، تأخر وليتقدم من هو أكبر منك ولكن الشاب نظر في وجه الخليفة وقال: يا أمير المؤمنين، لو كان الأمر بالسنِ لكان في الأمة من هو أولى منك بالخلافة!! فدهش عمر لهذا الجواب السريع والمنطقي وقال للغلام، تقدم لله أبوك إنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه!! استدعيت هذه السيرة المدهشة وأنا أطالع رسالة نصية هاتفية ظلت تبعثها إدارة مسجد الشهيد بالخرطوم كعادتها على هواتف المصلين تذكرهم بعنوان خطبة الجمعة، حيث قالت رسالة الجمعة الماضية إن خطبة اليوم (وما أرسلناك إلاَّ رحمة للعالمين) مع الشيخ أحمد عبد الجليل.. ولأنني أعرف الشاب أحمد عبد الجليل النذير الكاروري، وشيخ (عبد الجليل) معلوم أنه إمام الجمعة الراتب في مسجد الشهيد لكنه قد خلف ابنه أحمد الأسبوع المنصرم ليصلي بالناس وهو من كرام الشباب الذين هم أشبه بحبات السبحة الذهبية وأحمد شاب متطلِّع وطموح وناضج فكرياً ومُبِّين لغوياً، فهو قدوة في السلوك والخلق قبل أن يكون خطيباً منبرياً واسع الاطلاع!!.. هكذا عرفناه. وإنني أتابع الخطبة داخل المسجد تذكرت شمعة دعوية انطفأت وهو الداعية الشاب محمد سيد حاج الرجل الذي خطفته يد الأقدار قبل أن يكمل مشواره الدعوي الكبير، وتذكرت أيضاً تلك الفجوة الكبيرة في خلافة المنابر بدعاة شباب وناضجين لهم قدرات مثله على المخاطبة لجميع فئات المجتمع العمرية لا سيما الشباب الذين أصبح غالبيتهم تحت تأثير وهواجس منابر أخرى استوعبتهم خارج أسوار المساجد وملأت فراغهم القاتل وأصبحوا على استعداد لدفع أي شيء من أجل فدية شخص يحبونه ليس أدل شاهداً من ظاهرة الفنان الراحل محمود عبد العزيز وتأثيره الكبير على شريحة الشباب بتلك الصورة التي أفقدتهم القدرة على استيعاب صدمة فقده وعدم قدرتهم على الإجابة على أسئلة الفراغ العريض الذي خلفه وسطهم، ما هي إلاَّ شعور وإحساس بالفراغ الذي كان يملأُه «محمود»، وبغض النظر عن جميل فنه وإنسانيته ودون أن نبخس حقوقه وميول هؤلاء الشباب نقول إن الظاهرة تستحق من مؤسسات الدولة والرعاية الاجتماعية على وجه الخصوص دراستها ومراجعتها وتقديم نتائج وحلول للدراسة!!. النتائج المرجوة من الدراسة يجب أن تقترب من تقديم وسائل تتناسب مع هذا الجيل وثقافته حتى تكون عوناً على وضع الحلول مع أن الواضح أن فن «محمود» هو الذي منحه القدرات على التأثير فيمن حوله من الشباب بجانب تواضعه لكن هذا ليس وحده يمكن أن يسد الفراغ ويجعل الناس تلتف حولك لتؤثر فيهم، فهناك الثقافة وسعة الاطِّلاع هي من أكبر عناصر الجذب والنجومية وحب الناس إلى جانب البحث العميق في وسائل مخاطبة أهواء وأمزجة الناس بكل تياراتهم الفكرية.. ذات الأسلوب الذي جعل الشباب يتأثرون ب (محمود عبد العزيز) فهناك شباب آخرون كما أسلفت قد استوعبتهم منابر أخرى وقد تشبع بعضهم بأفكار إرهابية متطرفة وأكثر عنفاً في تقديم الدعوة بخلاف نهج الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن وهذا أسبابه كثيرة لكننا بالجد بحاجة إلى الأئمة المرشدين الشباب مثل (أحمد الكاروري) وبحاجة أكثر إلى منابر تفرخ شبابًا يحملون هم الدعوة إلى الله في سن مبكرة، وهذا يقيني لا يتأتى دون أن يحدث أمان اجتماعي ورضا وظيفي للأئمة لأن في ظل الظروف المعيشية الصعبة التي يعانيها أئمة المساجد في بلادنا والتي أدت إلى حدوث هجرة جماعية لبعضهم ذهبوا إلى بلاد الدنيا نظير رواتب ومحفزات مادية ومعنوية محترمة!!. الناظر الآن يلحظ بجلاء أن أئمة المساجد غير مفرغين تماماً للدعوة، فهم دائماً في كبد لأجل تحسين وضعهم الاجتماعي وتوفير حاجياتهم اليومية في التعليم والصحة وغيرهما. مع هذا الوضع هناك مفارقات في بعض المساجد حيث الاعتناء ببعضهم وبيئة بعض المساجد، وهو أمر يساهم في مأزق الخلافة في المنابر الدعوية، وحسن اختيار الشباب الذين يمكن أن يقدموا للخلافة، ما أريده هو وضع إستراتيجية ورؤية كلية للدعوة في الدولة تنظم هذا المجال الذي هو صلاح الأمة والمجتمع وبغيره يبتعد الناس عن الصلة بالله والتقرب إليه، وحفظ العلاقات فيما بينهم التوقف أمام هجرة الدعاة وضعف المواعين التي تتيح تفريخ دعاة شباب هو مدعاة إلى أن تقوم الحكومة بمراجعة آليات إعداد وتأهيل الدعاة بدلاً من ترك الأمر للاجتهادات الفردية أو مساهمات الخيرين ورجال القطاع الخاص!!. المسجد هو أنسب آلية لمخاطبة قضايا المجتمع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية حتى، وإن المنهج الحركي للسيرة النبوية قد اختط منهجاً بيناً وواضحاً ينظم كل أوجه الحياة، كما أن خلافة الشباب في منابر الدعوة واستيعابهم إلى عناصر وتكنولوجيا العصر هو من الخطوات التي تيسر مخاطبة جذور قضايا وهموم الشباب وسد الفراغات التي تقود في كثير من الأحايين إلى الانحرافات!!. أعود وأقول للشيخ النبيل «عبد الجليل» شكراً عميقاً فقد خلَّفت شاباً ذرب اللسان ويمتاز بجودة الصوت فقد كان كبيراً بلسانه وتخطى عمره الزمني إلى عمره العقلي، إنني أدرك أنه إمام لمسجد آخر في ضواحي الخرطوم وقد كانت إمامته تلك مؤقتة فإن شيخ «عبد الجليل» لا يزال يمسك بمنبره بقوة لسان وتأثير لكنه مطالب مثله والمنابر الأخرى، كما أن التيارات والمنظمات الدعوية (الحركة الإسلامية أنصار السنة الختمية أنصار المهدي) وبقية التيارات الإسلامية جميعهم مطالبون بفتح المنابر للشباب والعمل بخطة واضحة لخلافة الشباب بعد تأهيلهم علمياً وفكرياً حتى يصبحوا قادرين على حمل الأمانة وعبء التكليف، وسد النوافذ التي تجلب الخذلان والهوان على الأمة!!.