اعتاد المرحوم الأستاذ الفاتح النور له الرحمة والغفران مؤسس ورئيس تحرير جريدة «كردفان» وهو يقود حملة كبيرة لحل مشكلات المياه في كردفان، أن يبشر مواطنيه بقدوم الماء لهم بذلك العنوان الشهير «جاتكم الموية». وكان المواطنون يستبشرون بتلك القوائم التي تنشر خيراً. غير أني لا أبشر المواطنين بأي خير قادم بذلك العنوان، إنما أنقل لهم خبر قدوم شر مستطير، وذلك لما شاهدته بعيني وسمعته من تعليقات، وأنا أقف أمام شباك كهرباء الدفع المقدم في أحد الأحياء. لم أسمع في حياتي من شتائم وغضب عارم ينهال على الماء وعلى آباء من يعرفون الماء وعلى اليوم الذي جعل الناس «يلمون» في الماء مثلما سمعت بالأمس في مركز كهرباء الدفع المقدم. لقد كنا ندفع مقدماً لنستمتع بكهرباء تأتينا أخيراً خالصة غير مخلوطة بماء، مبرأة من كل ما يشوبها من شوائب وملوثات.. إلى أن تفتقت عبقرية قطاع المياه عن خطة إذعانية بربط الحصول على الكهرباء بدفع فاتورة المياه أولاً. وكان من الممكن أن يربط ذلك بطريقة لا تدعو لسخط المواطنين ورفع إفرازهم من الأدرينالين إلى درجة تجعل بعضهم لا يدري ماذا يقول. ولكن العباقرة في قطاع المياه ربطوا ذلك بعداد ما اتفق السودانيون على تسميته «الجمرة الخبيثة». ففى البيت الواحد عادة يكون هناك عدادان بينما يوجد خط واحد للمياه يدخل المنزل. وفي هذه الحالة يجبر صاحب المنزل على أن يدفع لكل «جمرة خبيثة» ما يقابلها من رسوم للمياه كانت في يوم من الأيام يأتي متحصل أو متحصلة ليتحصل عليها بفاتورة واحدة. ولهذا انطلقت مواسم الاستشاطة غضباً وسيل الشتائم الذي فاق سيل الماء المتدفق من صنابير المياه. وفي عرف رجال الهيئة أن السودانيين هذا حالهم يثورون ويفور دمهم لكنهم في النهاية يذعنون ويخضعون للأمر الواقع. قبل أعوام عندما كنت أسكن في حي الصافية بالخرطوم بحري، كنت أدفع مقدماً كل ستة أشهر مبلغ «150» جنيهاً عندما كانت الرسوم المقررة للماء «20» جنيهاً للشهر. ولكننى دهشت عندما جاءتني فاتور بمبلغ «407» جنيهات، ووجدت أن ذلك المبلغ لا يقبل القسمة على «25»، فأخذت بعضي وأخذت الفاتورة وقابلت موظفاً في قسم المياه ليشرح لي ظاهرة ال «407» جنيهات التي تستعصي على القسمة على «25»، وبعد نقاش طويل صارحني الأخ بالحقيقة التي كانت أغرب من استعصاء ال «407» جنيهات وقبولها القسمة على «25» بالرغم من التحانيس والأجاويد وعلماء علم حساب الدوبيا. فقد قال لي: - شوف يا ابن العم.. الحقيقة كان عندنا متحصل ... يتحصل من المواطنين ولكنه ما كان بيورد. وحصل عجز كبير وصل لمليارات، فقمنا رفدناهو وقررنا أن نوزع العجز دا على المواطنين. وأهو الأمور بتتشايل كدا والناس ما بحسوا بيهو. تصور هذه معالجة يقوم بها قطاع الماء، والمواطنون الذين لا يسألون بل يهزون رؤوسهم ويدفعون لا علم لهم بما يدبره لهم العباقرة في الخفاء. ونفس الأمر يتكرر عندما تقرر إدخال عدادات الدفع المقدم للماء «وهذا أرحم.. على الأقل يحاسبك على الماء الداخل فعلياً في منزلك» ولكن ما تفتقت عنه عبقرية رجالات المياه أنهم يحاسبونك على كم عداد كهرباء عندك، ويعد هذا من قبيل أكل أموال الناس بالباطل ما سمعنا به في الملة الأولى ولا في آبائنا الإنجليز المستعمرين الذين حكموا هذا البلد ردحاً من الزمن. أحد المحتجين قال لي: نحن أربعة، يسكن كل منا في غرفة. وقررنا أن ندخل أربعة عدادات كهرباء. وفوجئنا بأنه مطلوب منا أن ندفع لكل عداد «25» جنيهاً للماء. وذهبنا وسجلنا اعتراضاً عند هيئة المياه. وأرسلوا متحرياً من جانبهم. وجاء وتقصى الأربع حقائق، وأن الداخل للمنزل هو ماسورة نصف بوصة وليست أربع مواسير، وأثبتها في تقريره. فجاء قرار الهيئة أن ندفع «25» جنيهاً لعدادين اثنين. وكنا سنكون سعيدين جداً وراضين بما قسمه لنا الله في «كريبة الماء» ولو كان لدينا عداد دفع مقدم على الأقل كنا سندفع استهلاكنا الفعلي، ولكن الطريقة الجديدة ليست لها علاقة بالاستهلاك بالرغم من أنهم يشيرون إليها بأنها رسوم «استهلاك» بل هي ضريبة تضاف لعشرات الضرائب التي ابتلي بها المواطن. المواطن المسكين لم يوقع مع الكهرباء عقداً ينص على حق الكهرباء في تحصيل استحقاق المياه، وعليه فإن ما تفعله هيئة الكهرباء لا سند قانوني له. وأنا أستغرب لأهل القانون وأستغرب لصمتهم على ما يقع على مواطنيهم من اعتداء سافر على حقوقهم القانونية، ولا ينبرون لنصرتهم وهم الأعلم بنصوص القانون والتعاقدات، ولعل مبلغ علمهم ينحصر في Reynolds vs Fletcher and Liability for Fire أو Delegatus non potest delegare لكم الله يا بني وطني. لا أحد ينادي بأن تعطى الماء بالمجان لأنها وهي بقروش هناك إهدار شنيع للماء. وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن إهدار الماء : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ حُيَيِّ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْمَعَافِرِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ مَرَّ بِسَعْدٍ «سعد بن أبي وقاص» وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَقَالَ: مَا هَذَا السَّرَفُ؟ فَقَالَ: أَفِي الْوُضُوءِ إِسْرَافٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهَرٍ جَارٍ. والتربية الوطنية لم يصل مداها إلى تعليم الناس عدم الإسراف في الماء. ولذلك كان على الناس أن يدفعوا قيمة ما يستهلكونه من ماء تدخل في معالجتها مواد كيميائية وصلت كمياتها في عام 2010 م إلى 2.690.237 كيلوجراماً كما جاء في تقرير هيئة مياه الخرطوم لذلك العام. وقد جاء في التقرير أن عدد المشتركين بلغ 450.612 مشتركاً، وإن عدد الفواتير المستخرجة يساوي 5.353.907 في العام، وإذا قسمنا عدد الفواتير التي استخرجت على «12» لوصلنا للرقم 446.158.92، وهذا يقل عن عدد المشتركين ب 4454، أي أن هناك 4454 لم تصلهم فواتير شهرية وهذا ربما يكون سبباً في العجز الذي ظهر في المتحصل الحقيقي وهو 101.987.254 جنيهاً من ربط كان مرصوداً يساوي 133.827.296 جنيهاً. وقد بلغ العجز 31.840.042 جنيهاً في تلك السنة، وأنا لم أطلع على تقرير الهيئة للعام الماضي لأني قد استقلت من المجلس الأعلى للتخطيط الإستراتيجي بولاية الخرطوم. ومن واقع هذه الأرقام كان يتوجب على الهيئة «هيئة مياه الخرطوم» أن تخطط لمعالجة الأسباب التي تؤدي للعجز في متحصلها أولاً قبل أن تهجم تلك الهجمة الشرسة على المواطنين لتتحصل على ما يحق لها وما لا يحق لها تماماً مثل ذلك العجز الذي طالبني به موظف قسم المياه بالصافية بدفع 407 جنيهات، لأن متحصلاً هرب بما تحصل عليه ولم يورده، فتم تقسيم ذلك العجز على المشتركين في أغرب عملية تسوية تتم منذ عهد بعانخي وحمورابي وسيئ الذكر قراقوش. وماذا لو قام البرلمانيون وهم من انتخبهم الشعب للدفاع عن حقوق من انتخبوهم، وأوقفوا هذا الظلم الذي لم أجد له اسماً آخر بكل أسف.