ما من دولة في العالم إلا وقامت على التنوع وليست هناك دولة ذات مكون واحد، وهذه سنة الله في الكون، ونبه المولى عز وجل إلى هذا وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا وإن أكرمكم عند الله أتقاكم، معيار المفاضلة بين مكونات الدولة الإسلامية هو التقوى وليس أي شيء آخر، كالذي يعتمده البعض كاللون والجنس!!. والعصبية أمر قديم قدم التاريخ نفسه، وهي من إنتاج إبليس الذي اعتبر أنه خلق من عنصر أميز من ذلك خُلق منه آدم عليه السلام، وهذه العنصرية دفعت به إلى عصيان أمر الله، وبهذا فقد إبليس ما يمكين أن يتميز به عن الآخرين وهو تقوى الله فكان جزاؤه اللعنة واللعنة تعني الطرد من رحمة الله والعياذ بالله!!. وتقوى الله هي التي تقرب الشعوب والقبائل المكونة للبلد الواحد، أما إذا أخذنا معياراً آخر غير التقوى لتمزقت البلاد بالحروب والخلافات وهذا ما نعيشه الآن ونعاني منه بأكثر من معاناتنا في المعيشة وضنك العيش!!. الصراع السياسي المبني على غير التقوى هو صراع آخره المواجهة الدموية، وهذا تؤكده الأحداث الجارية في العالم العربي والإسلامي فقد تحول من صراع سياسي إلى آخر عنصري وإثني وهذا يحصر الصراع في نطاق ضيق، بينما المفترض أن يكون هذا الصراع ذا أفق واسع يقود المتصارعين إلى الحوار!!. وتعتمد الدول الاستعمارية إلى إشعال الفتن بين مكونات البلد الواحد لتغطيته، وهذا ما حدث في أفغانستان والعراق ويحدث الآن في سوريا والسودان، فالصراع في أفغانستان تحول من سياسي إلى قبلي وفي العراق إلى صراع بين السنة والشيعة أي إلى صراع طائفي، وآخر إثني يشمل الأكراد والعراقيين من جهة والأكراد وبقية الاثنيات من جهة أخرى وهذه الصراعات تهدد وحدة العراق في الصميم!! إستراتيجية الكثير من الأنظمة الدكتاتورية غير واضحة إلا في القضاء على معارضتها السياسية، باليد الأمنية الباطشة، وهنا تختفي لغة الحوار، وتفرض البندقية نفسها كبديل للحوار، وهنا تفتح أبواب الطامعين واسعة لتضم المعارضين الذين يقودون حركات مسلحة، وتقدم لهم كل المساعدات العسكرية وحتى حين التفاوض تكون الكلمة العليا للبندقية وليس للغة الحوار، إذ يحتفظ المتمردون بكامل قوتهم العسكرية، التي لا تعرف من التكتيكات والفنون العسكرية وإستراتيجيتها سوى حرب العصابات، وهؤلاء يصعب وفي كثير من الأحيان يستحيل تحويلهم إلى الحياة المدنية والسياسية، فالسياسة لم يكن لها دور في تشكيلهم، فالفضل يعود إلى البندقية التي أوصلتهم إلى هذا الكسب فلذلك يظلون يستندون إليها لوقت الحاجة، فعل هذا قرنق ومن قبله كوانين وآخرون كثر، ومن بعده اركو مناوي والقائمة تطول!! تكسير واضعاف القوى السياسية بالقبضة الأمنية سلاح ذو حدين، فالجهاز الأمني الذي يتمكن من تدمير المعارضة السياسية يتولد في داخله الغرور وفي كثير من الأحيان يصبح هو الخطر الحقيقي على النظام الحاكم!!. إن الصراع على السلطة وحتى الصراع على غير السلطة سنة من سنن الحياة فلا حياة بلا صراع سياسي كان أم غيره، فإذا اختفت المعارضة السياسية وضعفت تحول الصراع السياسي إلى شكل آخر يصبح صراعاً دموياً، وحتى في حالة اختفاء الصراع السياسي من جانب المعارضة فإنه يظهر داخل أروقة ومؤسسات الحكم نفسه.. ويقص علينا القرآن الكريم قصة فرعون مع موسى عليه السلام، ففرعون عندما علم بولادة طفل سوف يقوض ملكه قام بقتل جميع الأطفال الذين تمت ولادتهم في ذلك الوقت واحتفظ بواحد فقط ورباه في قصره وكان هذا الطفل هو موسى عليه السلام والذي بالفعل قوض ملك فرعون من داخل قصره!!. والصراع قائم ما دامت الحياة، إذا اختفى من خارج النظام الحاكم انتقل إلى داخله وهذا ما نعيشه اليوم في مؤسساتنا السياسية والأمنية. فاليد الأمنية بطشت بالمعارضة وقضت عليها لا تقف عند هذا الحد، وتسبح بها طموحاتها إلى ما هو أبعد من ذلك إلى ذات الحكم الذي كانت تحميه ثم تنقض عليه عند أول سانحة!! خطورة الحلول الأمنية أنها تفرز التشدد وتختفي لغة الحوار، وتفتح المجال واسعاً للفساد بشتى أنواعه أخلاقي، اقتصادي واجتماعي، وأكثر من ذلك يُحيي الصراعات القبلية والعنصرية والتشدد الديني، كما أنه «الحل الأمني» يخلق فوارق بين مؤسسات الدولة العسكرية من جيش قومي وشرطة، إذ تبدأ المقارنات بين من يحمل ذات الرتبة في الجيش والشرطة مع من يحمل الرتبة ذاتها في الجهاز الأمني، وهذه لها أثر نفسي غاية في السلبية يكون ذات نتائج واضحة في أداء تلك المؤسسات مع الفصائل المتمردة!!. لقد بلغ الصراع على السلطة مبلغاً خطيراً يهدد مباشرة بتفتيت البلاد وتمزيقها، وللخروج من هذه الأزمة، يجب أن يبدأ الحوار من الأطراف السياسية المختلفة، على أن يكون الحوار مستنداً إلى أصول متفق عليها، أما الفروع المختلف عليها فالحوار هو من يقرب من نقاط الخلاف المتباعدة!!. لقد أثبتت التجارب السياسية منذ الاستقلال وحتى الآن فشل إعلان حكومة قومية، وهذه لم تحاول الأحزاب السياسية تشكيلها والتوافق عليها والسودان في هذه الحقبة الحرجة يحتاج إلى عملية بناء وتعمير، وهذه لن يقدر عليها عطالى السياسة سواء في المعارضة أو في حزب النظام، هذه المهمة يقوم بها التكنوقراط فهذا عملهم فالراعي يريد المرعى والزارع يريد الإنتاج وكلاهما يريد الماء، وسياسيو اليوم لا يدركون شيئاً عن الماء إلا شربه من قوارير مياه الصحة، اليوم تقابل الدولة أزمة في المراعي بسبب انفصال الجنوب وتواجه أزمة في الغذاء بسبب الاضطرابات الأمنية في أكثر مناطق إنتاج الحبوب الغذائية في السودان وأعني بذلك النيل الأزرق وجنوب كردفان وتوفير المياه لهذه المناطق يشكل جزءاً كبيراً من الأزمة، ففي دارفور بدأت الأزمة بالعجز في إمدادات المياه وتطورت إلى أن صارت قضية أمنية وفي آخر مراحل التطور أصبحت قضية سياسية استثمرها أعداء السودان واستفادوا منها غاية الاستفادة!!. ولدارفور تأثير كبير على غرب إفريقيا لذلك نجد اهتمام فرنسا التي تحتضن أحد أكبر الفصائل المتمردة، وحل قضية دارفور يأتي اقتصادياً لا أمنياً وكذلك الحال في الشرق والجنوب حيث يأخذ الحل الاقتصادي حيزًا واسعاً، والحل الاقتصادي لا يمكن أن يأتي بالقبضة الأمنية بل على أيدي التكنوقراط الذي يوفر لهم الحوار السياسي الجاد الفرصة لإعمار ما تم خرابه!!