عانى الشيوعيون الروس كثيرًا من تاريخهم، وبقوا ينقحونه في كل حقبة جديدة يظهر فيها زعيم جديد. وقد قام المؤرخون الرسميون في الحزب بإعادة كتابة التاريخ، بعد استقرار الحكم للدكتاتور الباطش ستالين، الذي أعدم معظم أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي. وحينها أقدم المؤرخون المنقِّحون على شطب الصفحات الحسنة لهؤلاء الزعماء من سجلات التاريخ، حتى يخمل ذكرهم، ويجهل الناس الأدوار التي أدوها في سبيل الاشتراكية والتصنيع والدفاع الحربي. وعقب مهلك ستالين أمر خروتشوف المؤرخين إياهم بأن يعودوا من جديد لتنقيح التاريخ، ليمسحوا من صحائفه أي أثر طيب للزعيم الهالك، وليضيفوا إليه كل ما يشين سيرته ويلطخها بالعار. والصنيع التحريفي ذاته اجترحه أحفاد ستالين وخروتشوف من بني السودان، عندما أعادوا تنقيح كُتيب لهم أصدروه عن اتفاقية أديس أبابا صدر في سنة 1972م، فقاموا في الطبعة الثانية منه بشطب اتهامهم القديم للدكتور منصور خالد، مهندس تلك الاتفاقية، بأنه من كبار عملاء وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية وصنائعها المهمة في السودان. وما ألجأ شيوعيينا لذلك التنقيح ليس تراجعًا عن خطأ أو إثم كانوا ارتكبوه، وإنما لأن من دعوه قديمًا بالعميل منصور خالد، أمسى حليفًا لهم، بعد التحاقه بخدمة المتمرد الماركسي جون قرنق، وكادوا يدعونه بالرفيق منصور خالد. تحريف الجمهوريين للتاريخ واليوم يعاني أعضاء النِّحلة الجمهورية الضالة عناء شديدًا من بعض حقب تاريخهم القديم، ومن تراث الحوادث المحرجة المخزية فيه، ولذا تراهم يسارعون في إنكارها، أو إعادة صياغتها بما يزين. من تلك المواقف موقف زعميهم، في صف التقاليد الاجتماعية الرجعية، التي حكمت بضرورة ختان نساء السودان على سنن الفراعين. ومعارضته للقانون التقدمي، الذي أصدرته السلطات البريطانية الاستعمارية، وقضى بمنع ممارسة تلك العادة المشؤومة. وقد تصدى المدعو محمود محمد طه لمواجهة ذلك القانون، وألَّب حشو العامة وجمهرة الرِّجرجة عليه، كما فعل في تاريخ بلادنا كل رجعي غاشم، استنصر بالدهماء والغوغاء، لينصروه على ما كان عليه من غلواء. وواقعة نصرة عمليات الخفاض الفرعوني ما تبرح تبرِّح بالجمهوريين أشد التبريح، لأنهم استمرأوا من ناحية أن ينصبوا من أنفسهم حماة لحقوق المرأة، بينما كان شيخهم رجعيًا، يؤيد التعدي على حقوقها الجسدية بالخفاض المنهك. وتخزي هذه الواقعة الجمهوريين، لأن شيخهم الذي ضللهم، ادَّعي وادعوا هم له أيضًا، أنه لم يخطئ قط، طيلة حياته، لا في القول ولا في الفعل، ولا في قليل ولا جليل! ولكن تبين من هذه الواقعة أن شيخهم كان رجعيًا ضائعًا يتخذ الموقف الخاطئ، ويساند التقاليد المتخلفة، وأسهم بذلك، مع زمرة من الرجعيين من حراس التخلف من أمثاله، في استبقائه حتى اليوم. وقد كان بئيسًا أن حاول مجادلنا المعاظل، أن يفسر موقف شيخه الضال المضل، على أنه كان موجهًا ضد السلطة الاستعمارية، ولم يكن موجهًا لمساندة الختان الفرعوني. وهذا تعليل غير صادق وغير سديد، فليس كل ما فعله الاستعمار ببلادنا كان ضارًا، وكان يتوجب على أسلافنا مناهضته. ولو كان محمود محمد طه صادقًا في مناوأة الاستعمار، في كل فعائله، لتجنب ولوج كلية غردون التذكارية، ونيل شهادتها الهندسية، ولتجنب أيضًا العمل في مصلحة السكك الحديدية التابعة للحكومة بعد التخرج. وهكذا يتبيَّن أن مجادلنا المعاضل إنما كان متمحلاً لهذا العذر ليبرر به صنيع شيخه ولم يك صادقًا. وقد ابتذل هذا العذر بصيغة تحريفية مبطلة، تمامًا كما حرف ستالين وخروتشوف، وأحفادهما في السودان، وقائع الدهر وآثار الحدثان. صحيح أنا لا أقرأ لك! واستطرادًا من حديث الخفاض الفرعوني، الذي كان يدافع عنه شيخه، قال المعاظل: «ولقد أوضحنا من قبل للطيب مصطفى، حين أثار نفس الفرية، بأن ذلك محض كذب، ونشر ذلك التوضيح، في صحيفة «أجراس الحرية»، ولكن وقيع الله لا يقرأ ». ويبدو أن الجملة الأخيرة هذه من حديثه هذا، تتطابق مع الحق، وتتلاءم مع الواقع، لأني قلما أقرأ له شيئًا مما يُنشر من الغثاثات في الصحف اليومية، لاسيما في صحيفة «أجراس الحرية» التي كانت تصدرها حركة التمرد الجنوبية الباغية، التي كانت، ولم تزل، تستغفل هذا المغفل، وتستخدمه ضد وطنه وأهله في الشمال. ولم يكن إعراضي عن قراءة غثاثاته، إلا لأنه لا يضيف شيئًا جديدًا فيها، ويظل يكررها، ويجتر ما سبق أن كرره منها، ويعيد مضغه ولوكه، كلما سطر ردًا على نقاد شيخه الأثيم. ومع ذلك فقد رُضتُ نفسي وجشَّمتها عناء قراءة بضع مقالات له. وجاءت النتيجة بما لا يختلف قناعتي القديمة، القاضية بأن هذا الشخص لا يفعل شيئًا غير لوك ما سبق أن لاكه من قبل من خسيس القول ورسيسه. حتى أنه يكرر الأمثلة ذاتها التي استخدمها من قبل، ذلك مع أن الألمعية، بل الذكاء المتوسط، بل محض الذوق العادي، يحمل المرء على تجديد طرائق العرض، حتى ولو كان يعرض موضوعًا وحيدًا أثيرًا لديه. ولذلك أراني أقبل بكل سرور مقولته القاضية أن: «وقيع الله لا يقرأ». لكن بشرط أن يضيف إليها عبارة أخرى هي:«.. ما أكتبه أنا المجادل الجمهوري المعاظل من غلط ولغط وهراء ومراء». أما عبارته الثانية التي جاء فيها: «وحين يقرأ لا يفهم»، فهي من جملة الهراء، الدال على قله الحياء. إذ كيف يمكن لمن لا يفهم ما يقرأه، أن يحرز شهادات مدرسية وجامعية، مثلما أحرزتُ، بفضل الله تعالى، وبوافر عونه، وجزيل منَّته؟! وأنَّى لمن لا يفهم ما يقرأه، أن يجتاز الامتحانات العسيرات، التي تُنصَب دون نيل هذي الدرجات؟ فإن من حكم البداهة أن هذا ما يحدث أبدًا. وأنه لم يحدث من قبل قط. أساتذتي اليهود أشرف منك اللهم إلا إن اتفقت مصادفة عجيبة، فاقت في غرابتها أعجب أطياف الخيال، فاتفق أن جميع أساتذتي الكرام، الذين علموني في المدارس والجامعات، واختبروني مرارًا وتكرارًا، قبل أن يجيزوني، كانوا في جملتهم قومًا من الجهال السذج، الذين خُدعوا بي، واعتقدوا في اعتقادات باطلة مضللة، مفادها أن لي عقلاً يتيح لي أن أفهم ما أقرأه! وهذا ما لم يحدث بحمد الله تعالى، وله سبحانه الحمد كثيرًا، أن جعل أساتذتي بجملتهم من زمر العقلاء الكرام، الذين لا ينطلي عليهم زيف ولا يسري فيهم تضليل. والحمد لله تعالى أن أساتذتي قد شهدوا لي شهادات أعتز بها، أفادت في جملتها بغير ما أفاد به هذا المتخرس، من حديث لا يؤبه به، إذ مصدره الضغن المتأجج والغيظ الفائر. لقد شهد أساتذتي، بأني أقرأ وأفهم، وبموجب ذلك منحوني هاته الشهادات، التي أعتز بمن منحوني إياها، وإن كنت لا أعتز بها في ذاتها. ولا يساورني أدني ريب أن كل واحد من أساتذتي الكرام الذين أجازوني «وفيهم بعض يهود ونصارى» أفضل منك دينًا وعلمًا وخلقًا.