ليس كلُّ الرياح تأتي بما تشتهي السفن، وليست كل الاتفاقيات التي تُوقَّع تُرضي كل الأطراف، وبالتالي فإن اتفاقية «2005» التي وُقِّعت مع الحركة الشعبيَّة في نيفاشا لم تجرِ الأمور معها كما اشتهى الموقِّعون عليها، بل جرت عكس ما كان مُتوقَّعًا لها، وكانت فرصة لانفصال الجنوب لفتح أبواب جديدة لحروب في النيل الأزرق وجبال النوبة... قد يقول أحد إن القضية أصلاً عبارة عن إدارة للصراع في السودان مع القوى الخارجية، ولكن مقتضى الحال يقول إن الأمر كان أكبر من ذلك، لقد ظلَّ الرئيس البشير يكرِّر أن الغرب كلَّما نفَّذت الحكومة وعودها فتح عليها جبهات أُخرى. وواحد من تلك القرارات التي صدرت عن مجلس الأمن القرار «2046» القاضي بالتفاوض مع قطاع الشمال، ولعلَّ تلك أبرز النقاط التي تتَّجه نحو قضيَّة فتح الحوار مع قطاع الشمال اتفاق نافع عقار في أديس والذي رفضته الحكومة بحجَّة أنه لم يتوافق مع طرح الوساطة، ولذلك كان التيَّار الغالب في قضيَّة الحوار مع القطاع رافضًا له لأسباب تتفاوت بأن الحركة امتداد للحركة الشعبية لدولة الجنوب، وهو حزب مؤسَّس في دولة أخرى الأمر الذي يتنافى مع القانون، وبين تحفُّظ آخر على الحوار بحجَّة أن لقطاع الشمال امتدادات خارجيَّة متصلة بدول معادية للسودان، إلى جانب الموقف الفكري لقادة قطاع الشمال حتى عندما كانوا في شراكة مع الحكومة عقب اتفاقيَّة السلام حيث إنها لم تكن شراكة منسجمة، ويقول الخبير الإستراتيجي عمر عبد العزيز إن قطاع الشمال حتى الآن لم يغيِّر أجندته ومازال يحتفظ بالجناح العسكري الأمر الذي يخالف قانون الأحزاب، ويرى أن قادة القطاع لهم دور في إشعال الحرب في مناطق النيل الأزرق وجنوب كردفان والتي مازالت جذوتها متَّقدة، ويتحفَّظ أيضًا في الحوار مع مالك عقار وعبد العزيز الحلو باعتبار أن الاثنين يواجهان تهمًا جنائية، غير أنه استرجع موقف الحكومة الذي يتشدَّد في الرفض، ويشير إلى حديث البشير خلال مخاطبته المصلين بمسجد النور عندما هاجم قطاع الشمال وقال: «مافي قوة على الأرض تفرض علينا حوار مع قطاع الشمال»، ولكن حدث تحوُّل في موقف الحكومة يصفه البعض بالمفاجئ خاصةً إذا جاء الإعلان عن موقف الحكومة من قِبل وزير الدفاع، ويتساءل عبد العزيز عن الجديد الذي طرأ على موقف الحكومة كي تقبل الحوار؟ ويبدو بحسب الخبير الإستراتيجي اللواء محمد العباس أن الضغوط الخارجيَّة خاصةً ممَّا يترتب على عدم الحوار، إلى جانب أن هناك تحوُّلاً في موازين القوة داخل الجيش الشعبي ليس في صالح دولة الجنوب وإنما في واقع قوات الحركة، وأشار إلى التحوُّل في عملية التدريب والتأهيل الذي يمرُّ به الجيش الشعبي، ولذلك يرى أنَّ التفاوض مع قطاع الشمال من زاوية النظرة الإستراتيجية للأوضاع على الأرض، ويرى أنَّ من الحكمة مفاوضة الذين يُديرون حرب عصابات سياسيًا إذا كان ذلك ممكنًا بدلاً من الحسم العسكري الذي يتوق إليه أي عسكري، ويؤكِّد أن الحوار يجب أن يتم وفق نظرة إستراتيجية وواقعيَّة، وتساءل: هل نحن مستعدون لحرب أخرى مدتها «50» عامًا؟ ويتخوَّف البعض من فتح الحوار دون النظر إلى كل الأبعاد السياسيَّة والإستراتيجيَّة مع قطاع الشمال مع وضع العلاقات الإقليميَّة والدوليَّة للقطاع في الحوار، ولذلك يرى عمر عبد العزيز أن الإبقاء على القطاع كقوة سياسيَّة دون حسم قضيَّة جناحه العسكري سيكون أمرًا غير مقبول، أما إذا كان الأمر متعلقًا بإيجاد حل سياسي للقضية فيمكن من خلاله وضع حد لحرب العصابات التي تقوم بها، وتحفَّظ كذلك على التعامل مع القطاع كحزب رغم أنه مخالف للقانون، وقال إنه سيكون سابقة في الحياة السياسيَّة، وبالتالي الأمر يستدعي اعترافًا من الحكومة بأنَّ القطاع حزب سياسي يمارس نشاطه العلني، وعلى كلٍّ فإن القضيَّة لن تتوقف على الحوار مع عقار أو الحلو إنما تتعلَّق أيضًا بأصحاب المصلحة من أبناء المنطقتين الذين يجب استصحابُهم في أي عمليَّة سلميَّة، وقال عبد العزيز: كيف يدخل عقار والحلو للمشاركة السياسيَّة وهما مواجهان ببلاغات جنائيَّة؟ ودعا للتفريق في الحوار بين قيادات النوبة والنيل الأزرق في الحركة، وحذَّر من أي استجابة لضغوط من شأنها أن تستنسخ نموذجًا جديدًا من نيفاشا، وقال إن الحكومة يمكن أن تحاور لإحداث انفراج في الموقف السياسي الداخلي والدعوة للإصلاح وإغلاق الأبواب أمام التحديات الخارجيَّة، ودعا إلى الحوار مع القوى السياسيَّة الداخليَّة، قال: هم أولى بهذا، ولم يذهب السفير الطريفي أحمد كرمنو بعيدًا في تصوُّره للحوار مع قطاع الشمال، قال: كنت من المعترضين على الحوار مع القطاع، وأضاف: كلمة «قطاع» تعني أن له امتدادًا آخر بالجنوب، واعتبر الاعتراف به من البدع، ولكنه قال إن الوضع يتطلب تفاوضًا ولكن مع المواطنين أصحاب المصلحة وليس عقار والحلو، وأشار إلى أن عبارة «أصحاب المصلحة» ناقصة، مشيرًا إلى وجود أصحاب مصلحة في الحرب مثل عقار والحلو، وشدَّد على ضرورة التفاوض مع أصحاب المصلحة الحقيقيين لجهة أنَّ الظروف الدوليَّة قد تغيَّرت. على كلٍّ فإن قضيَّة التفاوض مع قطاع الشمال لا يمكن عزلها من أبعادها الداخلية والخارجية حتى وإن قال عنها وزير الدفاع إن الخطوة نظرة إستراتيجية للحكومة لحل قضية المنطقتين، ولكن لا يمكن أن نغفل حديث السفير البريطاني في جوبا الذي قال في تصريحات سابقة إن الاتفاق الذي وُقِّع بين السودان ودولة الجنوب لا معنى له إذا لم تُحل قضية المنطقتين، أو كما قال، باعتبارهما مهدِّدات للاتفاقية... إذًا هل تأخذ الحكومة بمخاوف الشارع العام إلى الحوار مع قطاع الشمال؟