أولاد العمارات يحتاجون بالضرورة إلى شرح كلمة »عتودي« الواردة في عنوان هذا المقال... والعتود هو أحد مراحل النمو التي يمر بها مولود »العنزة« أو الغنماية... فعندما تلد العنز »الماعز« مولوداً صغيراً يسمونه »السخيل«، والسخيل ينمو لمدة شهر ليتحول إلى سخل.. والسخل ينمو ليصل بعد شهر إلى مرحلة أن يكون »عتود« وإذا كانت أنثى تنمو لتكون »عناق« والعتود ينمو ليتحول إلى »عنبلوك«. والعنبلوك ينمو ليتحول إلى »تيس«.. والتيس إما أنه يخصى لكي يسمن أو يذبح أو يباع محلياً أو صادراً لبعض الأقطار العربية، أو يتم إطلاقه مع بقية الماعز لأغراض زيادة الإنتاج. طيب تقول الطرفة أن أحد المواطنين الغلبانين كان قد سُرق منه عتود، وكان يهتم به جداً لكي يبيعه في السوق ويشتري بثمنه ما يحتاج إليه.. وكانت سرقة العتود تمثل عنده كارثة عظمى وخسارة كبيرة. وبالطبع لم يجد غير أن يذهب إلى العمدة ليبلغ عن فقدان العتود.. ووجد العمدة مشغولاً في إحدى القضايا المعقدة بين قبيلتين كان منسوب إحداها قد قتل آخر، ونشأت من ذلك احتكاكات بين القبيلتين مما استدعى ضرورة عقد اجتماع عام بين القبيلتين برئاسة العمدة للنظر في أمر الصلح ودفع الديات وطي هذا الملف الذي كاد يؤدي إلى تفكيك النسيج الاجتماعي. وصاحب العتود جاء للتبليغ عنه في ذلك الوقت، ولكن العمدة وأعضاء محكمته لم يستمعوا له جيداً، حيث كانوا مشغولين بمتابعة الشهود ودفع الديات والصلح. والرجل في كل مرة ينبه العمدة قائلاً »يا عمدة شوفوا لي موضوع عتودي« والعمدة يستمع إلى كلمات الرجل ولكنه لا يركز معه. ويظل العمدة مشغولاً في حلف الطلاق وحلف الحرام ورفع العصا وإنزالها والتوجيه بزيادة الدية من «30» مليوناً إلى «60» مليوناً، وفي بعض الأحيان يقوم لكي يسلّم على أحد زعماء القبائل في رأسه حتى يقتنع ثم يجلس في مكانه مخاطباً الجميع بضرورة الوفاق والاتفاق وتوحيد الكلمة والدعوة للسلام. ثم إن صاحب العتود يظل يتبع العمدة إن قعد وإن قام وإن تقدم وإن وقف، ويفعل مثله، ويظل في كل مرة يجذب العمدة من جلبابه وشاله ومن يديه وكتفه قائلاً »يا عمدة شوفوا لي موضوع عتودي في الأول«. ويبدو أننا هذه الأيام ربما نمارس نفس طقوس صاحب العتود ونظل »نشاغب« و»نشاغل« و»نسائل« المسؤولين عن موضوع »العتود بتاعنا« ونجرهم من الأيدي والجلاليب، مع أننا نعلم أنهم مشغولون بقضايا دارفور وفتح المعابر للجنوبيين ومنحهم الحريات الأربع، ومشغولون بقضية إن كان البترول قد وصل سالماً إلى بورتسودان... وعتودنا يا جماعة هو »فك الارتباط« بين دولة الجنوب وناس عرمان، وعتودنا هو تفكيك »الفرقة التاسعة« وتفكيك »الفرقة العاشرة« التابعة لدولة الجنوب... وإن كان الكثيرون قد نسوا أو تناسوا حكاية فك الارتباط فلن ننساها، فقط لأننا نعتقد أننا دفعنا المقابل لها من الأرض والطعام والمال والحريات الأربعين. ومن المؤكد أن تحفظاتنا على العتود الآخر المتمثل في الحريات الأربع ستظل قائمة.. فحرية التنقل يجب أن تحكمها ضوابط صارمة ومشددة حتى لا نجد أن هناك ضباطاً من الحركة الشعبية كانوا يعملون »أمنجية« في دولة الجنوب ودربتهم إسرائيل قد صاروا يتحركون في السودان بلا حسيب ولا رقيب ويحركون الخلايا النائمة. وحرية التملك يجب أن تكون معها ضوابط حتى لا نجد أن الخطة اليهودية الخاصة بالاستيلاء على شوارع الخرطوم قد نفّذت وقامت مجموعات من ضباط وجنود الحركة الشعبية بشراء العمارات والمواقع بأموال إسرائيل والفرنجة والأمريكان بإشراف استانفورد. ويحدث لنا بعد ذلك ما حدث لأهل فلسطين. وحرية التجارة تكون مضبوطة بالتحويل البنكي ومراقبة التزوير والقيود على التهريب... وعلى كل حال نعلم أن هذا «العتود» لا تضمنه الاتفاقيات الموقعة بين الأطراف وإنما تضمنه الفئات المتعاملة من الشعبين... وإن لم يكن أفراد الشعب السوداني راضين »كلهم« عن تشغيل الجنوبيين وتسكينهم وتمليكهم والمتاجرة معهم ووفقاً للشروط المقبولة، فلن يحدث أي تقدم في هذا المجال مهما أعلنت لجان التفاوض وصفّق ثعالب الوساطة واستعرض رؤساء لجان التفاوض عقود التفاهم أمام القنوات الفضائية... ومع كل ما يحدث من التفاؤل الكبير نرى أن التريث أفضل، لأن من تجاربنا خلال ستين عاماً توضح أن الجنوبيين يريدون إبداء المرونة فقط حتى نطعمهم وننقل بترولهم، وعندما يكتفون سوف نرى وسوف ترون... وإذا كانوا لم يتوقفوا عن حربنا خلال ستين عاماً متوالية على الرغم من اعتمادهم علينا، فهم لن يتوقفوا خلال الشهور الستة القادمة.. وانتظرونا وأبقوا معنا... وفاصل ونواصل. وفي هذه الأثناء سنظل »مساكين« و»مزعجين« و»غلبانين« مثل صاحب «العتود» مع العمدة، ونجذب الحكومة مرة من جلبابها ومرة من شالها ومرة نهزها من يديها وأخرى من كتفيها، مهما انشغلت وتشاغلت عنا.. وفي كل مرة نسألها عن »عتودنا« بتاع فك الارتباط والحريات الأربع.