تغيرت الأحوال وتبدلت الأمور ولم يكن حاج أحمد الذي يعمل بحقله منذ الصباح الباكر بصورة راتبة، يدري أن الأقدار سترمي به بعيداً وهو يبحث عن ملاذ آمن من دوي القصف وانفجارات الدانات التي لا تميز بين الأطفال والشيوخ والنساء، تاركا وراءه كل شيء إلا أسرته التي حاول جاهداً أن ينقذها من هول ما شاهد. هكذا ارتسمت صورة مأسوية استيقظت عليها مدينة أبو كرشولا فجر السبت الماضي إثر هجوم غادر نفذته الجبهة الثورية وفلول الحركة الشعبية. وتعتبر أبو كرشولا واحدة من أهم المناطق بولاية جنوب كردفان حيث تضم مقر الوحدة الإدارية وبها مدرستان ثانويتان وأربعة مدارس أساس ومركز صحي وإدارة للغابات، تقع إلى الغرب من مدينة رشاد وشمال أم برمبيطة وغرباً منطقة أم بركة، وتضم مجموعة من القبائل وتتميز بإنتاج الفاكهة خاصة المانجو إضافة إلى الثروة الحيوانية والغابية التي تزخر بها، كما أنها تمثل نقطة التقاء لولاية شمال كردفان إلى جانب أنها تتميز بنشاط تجاري، ولهذا كانت هدفا أساسيا ظلت قوات التمرد ترمي إليه، إلى أن جاءت إليها عبر سيارات رباعية الدفع محملة بالأسلحة الثقيلة لم يجد المواطنون بداً من الخروج منها مع بداية الهجوم في رحلة قاسية واجهوا خلالها ألوانا من المعاناة والألم، هذا ما أكده المواطن هيثم أبكر ل «الإنتباهة» الذي قال عبر اتصال هاتفي: واجهتنا العديد من المشكلات ونحن نسلك طريق النجاة من قلب المعركة متجهين صوب مدينة الرهد ومعنا الأطفال والنساء والشيوخ وبعض من الأمتعة وقليل من مياه الشرب، كما أننا شاهدنا جثثاً ملقاة على الطريق. ويواصل هيثم قوله: فقدنا كل شيء شاهدنا المتمردين ينهبون ممتلكاتنا. ظللنا نقطع المسافات الطويلة راجلين دون وجود أية سيارة تنقلنا، فقدنا كثيراً من الإخوة لا ندري أين هم الآن، كما تعرض الأطفال للإرهاق، وعجز كثيرون عن مواصلة المسير. وبعد أكثر من يوم وصلنا إلى مدينة الرهد التي شعرنا عندها بالأمان، وقد استقبلنا المواطنون هناك بصورة طيبة وظلوا في خدمتنا. ولعل القصة التي رواها المواطن هيثم تبدو مشابهة لما ظل يتعرض له المسلمون في ميانمار مع اختلاف أن أولئك مواجهون من قبل نظام لا ديني، في حين أن الحركة الشعبية قطاع الشمال تدعي أنها تقاتل من أجل المواطن. وهكذا الواقع يبدو جليا خلال ما سرده مواطنون استطلعتهم «الإنتباهة» أثناء خروجهم من أبو كرشولا حيث أكدوا أنهم ظلوا يواجهون الجوع والعطش والإرهاق في ظل انعدام الماء والغذاء طيلة يوم أمس الأول وحتى صباح أمس إلى أن وصلوا مدينة الرهد أبو دكنة. ويشير الناشط محمد الدرديري من مدينة الرهد أن كل فئات المجتمع ومنظمات المجتمع المدني بالرهد ظلت في حالة تأهب لاستقبال العائدين من جحيم الحرب، مؤكدا أن عدداً من المدارس فتحت أبوابها لهذا الغرض. وفي السياق ذاته تفقدت الأستاذة سلمى الطاهر النور وزيرة الشؤون الاجتماعية بولاية شمال كردفان مواقع العائدين من المناطق التي تم الاعتداء عليها، ووقفت على أوضاعهم الإنسانية، وأكدت في اتصال هاتفي ل «الإنتباهة» أن حجم العائدين إلى الرهد يفوق الخمسة آلاف مع احتمال أن يزداد، مشيرة إلى أنه ما زال هناك تدفق للعائدين، وأكدت أن وزارتها أولت أمر العائدين اهتماماً بالغاً حيث ظل طاقم الوزارة بأكمله موجوداً في مدينة الرهد، إضافة إلى مفوضية العون الإنساني والهلال الأحمر بالولاية بجانب التأمين الصحي وغرفة متابعة للأوضاع الصحية وتوفير الكادر الطبي، وأبانت أن الوضع يحتاج لوقفة الجميع من منظمات مجتمع مدني وغيره، وقالت هناك اتصال بالمركز وتقديم تنوير متواصل حول الأوضاع إلا أنها أكدت أن الأوضاع تحت السيطرة تماما، وقطعت الأستاذة سلمى بعدم وجود أية منظمات أجنبية لهذا الدور، مبينة أن مثل هذه الخطوة تتم عبر مفوضية العون الإنساني. ووصفت الاعتداء الذي قامت به الجبهة الثورية بأنه إجرامي يهدف لسلب وقتل المواطنين، وأن من قاموا به مجردون من الإنسانية. وفي ذات السياق أكد الأستاذ الشيخ آدم وزير التوجيه والإرشاد بولاية جنوب كردفان أن هناك تنسيقاً تاماً بين شمال وجنوب كردفان لمعالجة قضايا النازحين بالرهد، نافياً قيام أية معسكرات بهذا الصدد لإيواء النازحين، مشيراً الى أنه تم تكوين لجنة تضم عدداً من الجهات بدأت في تقديم المعينات للمواطنين من وجبات جاهزة وغيرها. ومع تطمينات المسؤولين هناك، يجب أن نشير إلى أهمية تقديم الدعم العيني لأولئك المتضررين خاصة وأن الولايات والمحليات لها تجارب في تقديم العون عبر قوافل تجسد قيمة الإخاء والمروءة خاصة لأولئك الآمنين الذين غدرت بهم فلول الحركة الشعبية، وهي تدَّعي كذباً أنها تقاتل من أجلهم.