كان اليُتم قاصراً على من فقد أباه، ولكن هذه الحقيقة تمت إضافة لها يوم تشييع يس عمر، فقد رأيت أيتاماً في سن الصبا وآخرين في سن الثمانين وما بينهما من أعمار كلهم أصبح يتيماً وفي لحظة واحدة!! رجل بكاه الشجر والحجر ناهيك عن البشر!! رأيت رجالاً وشباباً وصبياناً حزنًا أظهر على وجوه الرجال علامات الشيخوخة وعلى الشباب ما كبت فيهم روح الشباب العارمة وكساهم ثوب الحزن العميق الصادق!! غصة أغلقت الحلق ورفضت الخروج أو الدخول فكان البكاء المكتوم أفصح بياناً من ذلك المعلوم جهراً، وأكثر إيلاماً، ففقدان هامة مثل يس يستحق كل ألم وكل أوجاع، فإن كان للآلام نهاية فقد وضع موت يس بداية نهايتها!! لو أنَّ الدموع تجمع لجرت أنهاراً وبحاراً، فالمآقي لا تبخل بالدمع على فقيد في قامة يس!! جمعته مع والدي عليهما رحمة الله ورضوانه أخوة خالصة لله وقد وثقاها ب«لا إلا إلا الله» وكان الشاهد عليهما المولى عز وجل فنعم الشاهد والموثق!! توثيق لم يُكتب بالفرنسية لغة المعاهدات بل كُتب بلسان عربي مبين ولم تشهد عليه الأممالمتحدة بل كان الشاهد الوحيد الذي ارتضياه هو رب العرش العظيم!! ولو نظرنا إلى موت يس وكل من وثق العهد وأشهد الله عليه وساروا في الطريق إلى الله لأيقنّا أنهم لم يموتوا بل بدأت حياتهم الحقيقية يوم فارقوا الدنيا إلى حياة أرحب وأسعد وسط الأحبة محمد وصحبه!! اليوم وبعد فراق سنين يلتقي رجلان يس عمر وحسين بابكر بعد طول غياب بإذن الله ويرحب بهذا اللقاء كل الأحبة محمد وصحبه إن شاء الله، وأحسبهم من قلة «الآخَرين» الذين وردت سيرتهم في القرآن الكريم!! ولم لا فقد تحابَّا في الله وتآخيا فيه، واشهدا الله على ذلك ونعم الشاهد!! إن الله إذا أحب عبداً ابتلاه وقد لاقى يس هذه الابتلاءات بالصبر والجلد فكل ما يأتي من عند المولى هو خير وأي خير، هكذا كان إيمان الرجل راسخاً حتى لقي الله وأصبح بإذنه تعالى ضيفاً من ضيوفه، وما أدراك ما ضيافة أكرم الأكرمين!! يكفي الرجل شهادة تشييع الآلاف المؤلفة له، ويكفيه ترحم ملايين المسلمين في رابعة العدوية وفي كل ميدان وقف فيه مسلم، فمنذ الساعات الصباح الباكر ترحمت الملايين في مصر وفي ميادين مصر على علم من أعلام الإسلام!! وكان يسن حاضراً في رابعة العدوية وحاضراً في مقابر البكري وكأنه الحي الوحيد وسط هذه الملايين وهذا سر لباس الصغار والشباب والشيوخ ثوب اليتم!! كيف لا والرجل لم يبخل بمد يده لكل مسلم في بقاع الأرض لترتفع كلمة لا إله إلا الله. لم ينس الرجل وهو يصارع الموت أن يسأل عن البلح والمواد التموينية التي عود الفقراء كل عام في الشهر الفضيل، فقد اعتاد أن يقدم للفقراء، ابتغاء مرضاة الله طمعاً في رحمة وسعت كل شيء، كان كريمًا يرجو كرماً أكبر وأشمل هو كرم أكرم الأكرمين!! لقد آمن الرجل بالوعد الإلهي الصادق إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، فما كان منه إلا أن قدَّم نفسه وماله لله بائعاً، وقد آمن بأن النفس والمال هبة من عند الله للإنسان، ومع ذلك ما هو ملك له، وقدم يس نفسه وماله للبيع فالشاري هو المولى عز وجل.. وربح البيع يا يس!! فباع روحه بأن طرق كل ميدان جهاد إسلامي وقدم ماله لله، نعم البائع والمشتري!! ولو كان يطلب صيتاً دنيوياً لأصبح من مشاهير الدنيا كغاندي أو جيڤارا أو حتى نيلسون مانديلا، هؤلاء تم تلميع أعمالهم إعلامياً، وعملت آلة الإعلام الضخمة على إضفاء العظمة عليهم، رغم أن ما قدموه يجد التقدير، إلا أن الدعاية الإعلامية قامت بالتضخيم، أما الإعلام الحقيقي فهو ذلك الذي يناله المؤمن يوم الحساب، إعلام توثقه شهادة المولى عز وجل وتكتبه الملائكة بعد أن باركته دعوات الفقراء في الدنيا، ما كان يس يرجو إعلاماً غير ذلك الذي يبيع بأن له الجنة!! كان يس في رقة النسيم وصلابة الصخر، في المواقف الإنسانية تعبر عنه دموعه وفي المواقف البطولية تجده فارساً صلباً وأسداً هصوراً!! عرفته من قبل ستين عاماً حين كان أخاً صادقاً لوالدي عليهما رحمة الله ورضوانه، كنت حينها في الخامسة أو السادسة من عمري وكان يغمرني بذات الحنان الذي غمرني به والدي عليه رحمة الله ورضوانه، كنت أتهيب صرامة وجهه وجديته وفي ذات الوقت أشعر بدفء قلبه ورقته وحنانه فكان أبي بجوار أبي وأبي بعد أبي!! إنه وبإذن الله ضمن تلك القلة من «الآخَرين» التي ستنضم إلى قلة «الأولين»، فقد غادر الدنيا وقد باع لله كل شيء، نفسه وولده وماله حتى يلقى الأحبة محمدًا وصحبه!! وهو اليوم وبإذن الله في ضيافة أكرم الأكرمين بعد أن فتح أبواب بيته للكل كرماً وترحاباً، لكل مسلمي العالم وليس لأبناء السودان وحدهم، بيت ما خرج منه جائع، وما غادره إلا شاكراً وداعياً!! حُق للجود أن يفزع وللفضل أن يندب، فقد غادر يس!! أما نحن فلا يسعنا إلا أن نحمد الله على قضائه، ونسأل الله له الرحمة، وقد غادر الدنيا في أيام الرحمة ونسأل الله أن تجمع هذه الرحمة المغفرة وتتوج بالعتق من النار بإذن الله. اللهم ألهم آله وإيانا الصبر وآجرنا في مصيبة يس حتى نلحق به جميعاً في الضيافة الربانية الأبدية، وإنا لله وإنا إليه رجعون!!