في سيرة نبيّنا عليه الصلاة والسلام من الفوائد العظيمة ما يثري ويغني الدعوة والجهاد، ويُسدّد طريق الداعية والمجاهد ويُوفقه لما فيه خير الدعوة والجهاد، ويعود عليه بالثمرات العظيمة، كما يجنّبه المفاسد والثمرات الضارة المشوّهة أو الخبيثة. والدارس الواعي لهذه السيرة العطرة العظيمة على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم، المتأمل فيها يعلم أن الله سبحانه وتعالى كان يوجِّه نبيه صلى الله عليه وسلم كي ينتقي من الخطاب الدعوي والأعمال والاختيارات والأولويات ما يراعي به تارة. طبيعة المخاطب وخلفيته العقائدية أو الفكرية والأخلاقية وهذا يلزمه معرفة في الناس والرجال وعشائرهم وطبائعهم. ويراعي طبيعة المخاطب من حيث كونه معانداً للدعوة محارباً للدين أو غير محارب ولا معاند، وتارة تراه يراعي إمكانات الدعوة والطائفة المؤمنة أو طبيعة المرحلة والظرف والواقع والزمان، يفعل ذلك كله وفقاً لميزان شرعي يراعي ويقدم أعظم المصالح عند تعارضها ويدرأ أعظم المفاسد عند تزاحمها دون إخلال بالثوابت الشرعية والعرى الوثقى والأركان الركينة للدين والتوحيد.. ومثله قوله صلى الله عليه وسلم لهرقل في كتابه إليه بعد أن ذكر التوحيد: (أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين). وهذا النوع من الخطاب أعني إظهار الأنبياء حرصهم على هداية أقوامهم وإظهارهم خوفهم عليهم من العذاب الأليم مقرّر في دعوة الأنبياء ومن ذلك قول نوح لقومه: {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم}. فأي حرج بعد هذا في مثل هذا الخطاب الذي يُظهر حرص الداعية أو المجاهد على هداية الناس أو حب الخير لهم أو نصرة المستضعفين وتخليصهم من تسلّط وإضلال الطغاة والظلمة لهم أو الحرص على نشر الأمن والعدل والإحسان ومحاربة الظلم والفساد والطغيان، والله لا يتحرج من هذا وينكره إلا أصحاب العقول الضعيفة الجاهلون بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم ودعوة سائر الأنبياء.. وليس في هذا الخطاب تحريف للأصول أو تمييع للثوابت أو مداهنة للكفار أو ركون، بل هو حق مشرق وثابت من ثوابت ديننا يجب على الداعية بيانه وإظهاره وإبرازه للناس كافة، ولا مانع من التركيز عليه وتعمد الدندنة حوله مع من يحب مثل هذه المحاسن أو يعظمها من الكفار.. ومن مراعاته صلى الله عليه وسلم للمخاطب من جهة كونه معانداً محارباً أو مهادناً غير محارب ولا معاند.. تطبيقه الحكيم وعمله في سيرته بقوله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون}. وخذ على سبيل المثال مراعاته إمكانات الدعوة والطائفة المؤمنة وطبيعة المرحلة والواقع في موضوع التدرج في تشريع الجهاد.. حيث كان الأمر أولاً بالكف والعفو والصفح والإعراض عن المشركين والصبر على أذاهم.. وفي هذه الفترة كان صلى الله عليه وسلم يترك قتل من قد يترتب على قتله مفسدة على المسلمين فكان يسمع أذى المنافقين ويبلغه أذاهم ويطلب منه أصحابه قتلهم فيقول: (دعهم لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) ثم أعز الله المسلمين ببدر وكان ذلك بداية عزتهم، حيث أذل ذلك رقاب أكثر الكفار الذين بالمدينة وأرهب سائر الكفار.. فقام صلى الله عليه وسلم في هذه الفترة ببعض أعمال النكاية في بعض اليهود الذين لم يكن في قتلهم مفسدة على أهل الإسلام ودارهم، فقتل كعب بن الأشرف طاغوت اليهود وأمثاله ولكنه لم يتوسع في ذلك بل اكتفى بقتل من كان يؤذيه ممن لا يحصل في قتله مفسدة، إلى أن استتب له الأمر أكثر في المدينة فأجلى من أجلاه منهم وقتل من قتله، كل ذلك فعله بعد غدرهم أو نقض عهودهم ليكون فعله جامعاً لأهل المدينة ثم لما حصل له الإثخان في الأرض أمر بقتال المشركين كافة وقتال اليهود والنصارى حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون.. وأمر بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم.. وهذا كله من مراعاة حال الفئة المؤمنة أو الدولة المسلمة وإمكاناتها وقوتها.. ولذلك فخطاب الفئة أو الدولة المسلمة حال ضعفها للأعداء الداخليين والخارجيين ليس هو كخطابها بعد زوال ضعفها وليس هو كخطابها بعد قوتها، وهذه القوة أيضاً يختلف الخطاب والنهج فيها بحسب وزنها فخطاب الدولة المسلمة واختياراتها في زماننا قبل أن تمتلك السلاح النووي الرادع مثلاً ليس كخطابها واختياراتها بعد أن تمتلكه كل ذلك كما قدمنا دون مس بالثوابت فالإحسان والمداراة التي هي من أخلاق المؤمنين وهي كما هو معلوم غير المداهنة، وكذا العفو والصفح والإعراض عن أذى المشركين وعدم مبادأتهم بالقتال كل ذلك جائز حال ضعف المسلمين أو إذا اقتضته مصلحة الجماعة أو الدولة ولا يناقض أو يعارض ثوابت التوحيد والولاء والبراء ونحوها من العرى الوثقى..