هنالك أشخاص يمثلون مرحلة فارقة من التواصل الاجتماعي بين مكونات الشعب السوداني؛ لأنهم يجسدون الامتزاج الذي حدث بين القبائل في كل مناطق البلاد بلا استثناء. فقد كنا هنا في الرياض نضرب المثل على هذه الفئة من الناس بالبروفسور سيف الإسلام سعد عمر رحمه الله فقد جمع بين فاشر السلطان في دارفور وشندي في ديار الجعليين، فهو سليل مكوك الجعليين من ناحية الأب، بينما أمه هي الميرم نفيسة سليلة سلاطين مملكة الفور، ولذلك كان يمثل جسراً للتواصل قلّ أن يوجد بين ظهرانينا في هذا العصر! وحديثنا اليوم عن سيدة من فضليات نساء السُّودان، هي خالتنا مريم بت الفكي العاقب ود محمد أحمد الأمين من نسل الشيخ إدريس، المشهور بود الأرباب، فهو حفيد الشيخ محمد بن الأرباب بن علي بن قرين، وأمه هي صُلحة بنت الشريف حمد أبو دنانة. أما من ناحية الأم فتنتمي خالتنا مريم بت العاقب إلى الفكي الناير ود عَليْ إذ إن أمها هي فاطمة بت الأمين ود المهدي ود محمد ود الناير، وجدتها هي حوة بت الفكي عيسى ود الناير ذلكم البحر الزاخر، فهو عالم كان يهابه الحكام والعامة؛ لأنه لا يخشى في الحق لومة لائم، وأمه هي منينة من قبيلة الجِمِع في شرق كردفان. وعندما أكمل محمد وعيسى ابنا الفكي الناير حفظ القرآن الكريم ودرسا مذهب الإمام مالك، زوجهما أبوهما هادية وهدية كريمتي محمد ود قش أو كما يقال «تومات» ناس حمد الله فخذ من الفراحنة من قبيلة دار حامد. واختلاط الأنساب هذا ما يجعلنا نقول إن هذه السيدة قد خرجت من رحم السودان قاطبة، وهي لذلك تصلح أن تكون مثالاً لتداخل القبائل السودانية الذي ننشده حتى يكتمل بناء الهوية السودانية وتزول التشوهات التي طرأت على مجتمعنا بسبب القبلية والجهوية. غادر الفكي العاقب العيلفون، بعد أن حفظ القرآن الكريم في مسجد جده الشيخ إدريس، وحطَّ الرحال في منطقة الخيران التي تقع شمال بارا حيث عمل معلماً أو شيخاً للقرآن في قرية الحديّد وحفظ عليه أشخاص كثيرون، ثم ذهب للتدريس في مسجد الفكي الناير في «العفينة» أو حلة الفكي، وهناك طاب له المقام وتزوج جدتنا فاطمة بت الأمين التي أنجبت له عدداً من البنات وولداً واحداً هو الشيخ محمد ود العاقب أطال الله عمره، وهو أحد الحفظة الكبار وراوية لتاريخ المنطقة لأنه عاصر بعضاً من كبار الشخصيات مثل جدنا محمد شلاع، الرجل الحكيم ومستجاب الدعوة، وإبراهيم ود علي الذي نقل لنا أخباراً كثيرة عن المهدية وما صاحبها من أحداث مؤسفة راح ضحيتها نفر كريم من أبناء الفكي الناير حتى صارت قريتهم تعرف «بدار الكتلة»؛ لأن الجهادية، وبأمر من الختيم موسى عامل الخليفة على الأبيض، قد أغاروا على أهلنا وهم بين مصلٍّ وتالٍ للقرآن فقتلوا منهم ما يزيد على عشرين رجلاً بسبب وشاية لا أساس لها من الصحة جاء بها رجل فاسق، فقاموا بفعلتهم المنكرة تلك دون أن يتبيَّنوا حقيقة الأمر! عودة لموضوعنا نود أن نقول إن عوامل كثيرة قد ساعدت قديماً على اختلاط أهل السُّودان من مختلف القبائل والأعراق؛ فمثلاً كان طلاب العلم يخرجون مهاجرين من ديارهم بحثاً عن شيخ أو «مسيد» يحفظون فيه كتاب الله فيطيب لهم المقام ويصبحون جزءاً من المجتمع الذي هاجروا إليه، ويندمجون فيه ويتزوجون دون أدنى مشقة بسبب العرق أو القبيلة، إلا أن هذا الحراك الاجتماعي قد توقف بسبب فترة المهدية التي خلقت جداراً يصعب اجتيازه بتقسيمها المجتمع السوداني إلى «أولاد الغرب وأولاد البحر»، إذ شهدت العلاقة بين الخليفة عبد الله التعايشي وبعض قبائل الوسط توتراً حاداً ألقى بظلاله على العلاقة بين من صاروا يعرفون «بأولاد البحر» أي النيل، وأبناء الغرب، من دارفور وكردفان، المعروفين «بأولاد الغرب». ونتيجة لذلك حُرم السودان من فرصة سانحة كان من شأنها أن تُزيل كل الفوارق القبلية وتسمح بصهر السودانيين في بوتقة القومية، وتتعزز الهوية السودانية، وتنتفي كل مسببات الصراع القبلي والجهوي. ومن ناحية أخرى كانت الخدمة المدنية، حتى وقت قريب، تُعد أحد عوامل اندماج أهل السودان، ولكن للأسف الشديد فإن تلك الخدمة قد فقدت رونقها، حيث كان الموظف يتنقل بين المديريات المختلفة، وفي كل الأحوال يحدث تمازج واختلاط بين الناس وتذوب الفوارق. كما أن نظام التعليم قد ساعد على الاندماج أيضاً؛ إذ كانت المدارس الثانوية الحكومية مثل خور طقت وحنتوب والفاشر الثانوية تقبل طلاباً من جميع أقاليم السودان فيتعارفون بينهم دون حواجز قبلية. لكن الحكومات الوطنية، والأحزاب السياسية، التي سيطرت على الوضع، منذ الاستقلال حتى الوقت الراهن، قد فشلت في إدارة حراك سياسي من شأنه أن يرتقي بالمجتمع من القبلية والجهوية إلى مرحلة الوحدة الوطنية حيث لا قبيلة ولا جهة، ولكن ضيق الأفق السياسي والحرص على الاحتفاظ بالولاء الأعمى قد جعل قادة الأحزاب لا هم لهم سوى كسب الأصوات دون السعي إلى الارتقاء بالمجتمع حتى يصبح أكثر تمازجاً وتحضراً! وجاء الحكم الفدرالي ليزيد الطين بلة إذ جعل كثيراً من الولايات تنشأ على أساس قبلي واضح، ويتبع ذلك اختيار الولاة الذي يكرس القبلية أيضاً. إزاء هذه الإخفاقات التي أسهمت في تأزيم أوضاعنا الاجتماعية والسياسية، لا مخرج إلا برؤية منهجية تُسخَّر لها وسائل الإعلام والمناهج الدراسية وتُضمَّن في الدستور حتى نخرج من عنق زجاجة القبلية، ونتحول إلى مجتمع متجانس تسود فيه ثقافة التعايش السلمي بدلاً من النزاعات التي تجهض المشروعات التنويرية وتعمِّق الصراعات القائمة، وتؤدي بالتالي إلى الفوضى والدمار.