قال الطيب ودضحوية: الدرب البجيب كمش القروش مو هين ومابمشيها ديك بيتو اب جليدًا لين .. ظاهرة الهمبتة ظاهرة اجتماعية سادت في فترة من الفترات في تاريخ السودان، والهمبتة تعني سلب ونهب الإبل وكانت تعتبر من أرفع ضروب الفروسية وهي ظاهرة تجمع بين طرفي نقيض من الأخلاق والتعامل فنجد أن الهمباتة مع ممارستهم لتلك المهنة يتميَّزون بالشهامة والنخوة ويكونوا محل فخر وتقدير أهل القبيلة. وكانت حياة الهمباتة تسير على نهج صعاليك الجاهلية أمثال «عروة بن الورد والسليك بن سلكة». ومن أشهر الهمباتة الذين تتردد أسماؤهم في السودان «الطيب عبد القادر سليمان «ودضحوية» طه محمد أبو زيد البطحاني «طه الضرير» الخضر ود فكاك.. «الإنتباهة» حاولت إلقاء الضوء على تلك الظاهرة الاجتماعية مستعينة بأهل الفكر والباحثين عن التراث.. الهمباتي روبن هود السوداني بداية التقينا بالأستاذ محمَّد الفاتح يوسف أبوعاقلة من جامعة السودان المفتوحة إدارة البحوث والتخطيط والتنمية باحث في التُّراث الشَّعبي والذي قال في إفادته لنا: عندما نستمع إلي الشَّاعر الشَّعبي يقول: البلد إن أبوك عُمَدو وجفوك نُظُّارو متل المتلي قاعِد فِيهو شِنْ أَخبارو بلوي حكاري في الفِي مشيهو حاكى عصارو منو البانينا غِير المَولى واسعة ديارو أو عندما تدهشنا طلاقة عبارته، ووضوح مقصده في: نوم النَّمرة والقيد المَبرشم دَقُّو ما بجيب حاجة للمظلوم وينصف حَقُّو قول لى جريعة العسل اللذيد في مَقُّو نحن مرقنا والبتقانتو الانشقو عندها لا بد لنا من الالتفات إلى هذا الهنباتي أو الهمباتي، الذي ربما اشتق اسمه من النَّهب، وتم التَّقديم والتَّأخير والقلب في ترتيب حروف اللفظ. ونسب إلى من يأخذ من الذين يكنزون المال، والذي يعني الإبل في المفهوم القديم ويعطي المعدمين الفقراء المساكين: دَرب المال يِصدِّف في الخُلُو ؤضرايبُو حرَّات المَسُور هام بالعمل مَا بغايبو مكلوف خيل بَني الشايقي البِنفِّي سَبايبو من زيف عفرت البراق مِرمِّي لكايبو يقودنا هذا المبحث إلى التاريخ القديم، منذ صعاليك العرب، عروة بن الورد، والُّسليك بن السُّلكة، وتأبَّط شرَّا والشَّنفرى، الذين كانوا على خلاف مع مجتمعهم، ينطلقون وفق مفاهيم يسعون من خلالها إلى خلق التوازن في هذا المجتمع، الذي تتكدس فيه الأموال عند فئة بعينها دون الفئات الأخرى. ألم يقل عروة بن الورد: وإنِّي امرؤٌ عافِي إنائي شركةٌ وأنتَ امرؤُ عافِي إناؤُك واحدُ أُقَسِّمُ نفسي في جُسومٍ كثيرةِ وأَحْسو قِراحَ المَاءِ والمَاءُ باردُ من خلال لقاءات جمعتني بعددٍ منهم قديماً في رحلة البحث والتوثيق، وقفت على أنهم أصحاب منطلقات من القيم والمفاهيم البطولية، فهم في سمت أنيق، ثياب نظيفة ناصعة ووجوه لا تحس فيها قلقاً وتوتراً البتة! وذلك لإحساسهم بالرضا عن الذات، والثقة في صنيعهم، الذي يمتلئون قناعة بجدواه! سراع إلى نجدة الملهوف، وإزالة الضيم عن المظلوم، فللجار عندهم حرمة تُراعى، وللمفطوم واليتيم والأرملة أولوية في العطاء والنجدة. هذا هو واقع ما هو كائن تجاه هذه الظاهرة المجتمعية، التي سادت في بوادي السودان فترة طويلة، امتدت منذ ما قبل التركية السابقة، وإلى زماننا القريب هذا، وارتبطت بمسارات الرعاة والمراعي المفتوحة في السودان، وبخاصة مراعي الإبل. ولهذه الظاهرة علاقة بما يُسمى بالسالف، وهو نسق من السلوك الذي يتخذونه بينهم، وبين صاحب المال، حتى يتمكن من استرداد ماله الذي أخذه الهنباني، أو المهاجري وفق إجراءات ووسائط معقدة. انحسرت هذه الظاهرة مع تمدن المجتمع وتمدد خطوط الطرق المعبدة، وتطور وسائل وأدوات القوات النظامية، التي تعينها على ملاحقة الهَنْباتة والقَبض عليهم! لأن هذا السلوك لا يقرُّه القانون ويحاكم مرتكبَه بالسرقة. عموماً هناك نقاط لا بد من الإشارة إليها وهي كالآتي: * الهنبتة مؤشر من مؤشرات المجتمع السوداني، عبر حقبه التاريخية المختلفة. ب. توفُّر الإصلاح والتَّوجيه الطيِّب، لمن يتم القبض عليهم من الهنباتة، ضرورة لا بد منها، لنصح وإرشاد ممارسي هذا السلوك إلى الهدى والرشد. فلقد قال أحدهم قديماً: يا ناس السجون بالله ما ترازونا خاف تترفدوا وفي الفَنْقَة بتلاقونا وقال الآخر: السجن العساكرو بفتشوا السروال فيهو قعدنا لايكين جمرة الملال وقال الثالث عندما تم القبض عليه: شالني وقفَّا تمساح الجزيرة الخايب شَالني وقفا من فوق ليهو تِسعين نايب الكَجَّامة مسكت في السَّديس النايب الزُّول راجعو قول ليهو النَّويح شِن جايب . ارتباط الهنبتة بموروث ثقافي شفهي، يؤسس لقيم سودانية خالصة، تتمثَّل في النجدة والمروءة والشَّجاعة والكرم ومراعاة حقوق الجار، ونُصرة الضَّعيف والمظلوم، كلها مفاهيم وقيم ومضامين تستحق الوقوف عندها، وتوظيفها إيجاباً لتعزيز تلك القيم وبثها في وعي الأجيال. الولد البطبق المَسْرة فوق المَسرة بخلف ساقو فوق ضهر أب قماقم ؤيسرى حقب قربينو في جربانو خت اب كسرة فرقاً شتى من ناس يُمَّة زيدي الكِسرة . الهنبتة ظاهرة ثقافية واجتماعية واقتصادية وإنسانية، وهي ترفض البخل والبخيل الذي يكدِّس المال، ولا يلتفت إلى ذوي قرباه المعوزين. وهي ظاهرة يطول الحديث عنها، وتحتاج لكتب ومقالات وبحوث، ودراسات مستفيضة لا يتسع لها هذا الاستطلاع الموجز. والهَنباتي، هو روبن هود السُّودان. أشبة بطائفة اشتراكية البروف عبد الله حمدنا الله عميد كلية الآداب جامعة إفريقيا العالمية أفادنا في هذ الصدد قائلاً: الهمباتة طائفة من الناس اتخذوا من الإغارة على الإبل وامتلاكها مهنة لهم ولهم في ذلك عادات وتقاليد منها أنهم لا يسرقون من المرأة ولا من الشخص الضعيف ولا يسطون على المنازل فهذا في نظرهم عيب كبير. وحينما اتهم طه الضرير بسرقة أساور امراة قال في ذلك: أخوك يا السمحة ثقاف الخلا العتمور وأخوك يالجاهلة ختار الجدي المديور كان اسرق سوارك أدور لي فيهو سرور حكاية تضحك النعجة وتبكي التور ويقومون بممارسة تلك المهنة على الشخص المقتدر ولا ينظرون إلى فعلتهم تلك بأنها عيب أو عار، ويعتبرونها ضربًا من ضروب الفروسية بل نجدهم يفتخرون بسرقاتهم وغاراتهم ولهم في ذلك شعر. قال الطيب ودضحوية: ناس قدر الله قاعدين في الفريق مابختروا من غير كبي وكشف حال الحريم ما بفتروا أنا بختر براي أسد الرديمة بنتروا صاحبو الضل ما بفشيبوا والله أستروا . وهذه الظاهرة ظاهرة بدوية وهم أشبه بصعاليك العرب أمثال «تأبط شرا وعروة بن الورد والسليك بن سلكة». ود ضحوية .. حافظًا للقرآن.. العمدة الحاج علي صالح جيب الله عمدة نهر النيل بالدامر كانت له بحوث وكتابات في مجال الهمبتة التقينا به ليحدثنا عن تلك الظاهرة الاجتماعية: الهمبتة ظاهرة موجودة منذ العهد الجاهلي حيث كانوا ينهبون من الأغنياء ليعطوا الفقراء، وامتدت هذه الظاهرة عبر التاريخ حتى ظهرت هنا وأشهر الهمباتة في السودان الطيب ود ضحوية وكانت له قصة في بداية ممارسته لتلك المهنة حيث كان له أخ يسمى كرار قُتل من قبل عرب «الخواوير»، وقاموا بحرقه بعد قتله وكان الضحوباب يجوبون الأرض بحثًا عن أخيهم المفقود وصادف في تلك الفترة أنه كانت هنالك فتاة صغيرة في السن من عرب «الخواوير» يريدون تزويجها لرجل كبير في السن وكانت تلك الفتاة على علم بقتل قبيلتها لكرار أخ الطيب ود ضحوية فقالت بيت المسدار الآتي لافتة نظر الطيب ود ضحوية: يالضحواب جميع مكبوتكم الكرار .. ضلعوا اطقطقن تحت الهشيم والنار .. يسلم لي «علي» العدمكم الدوار .. وينو الطيب القالوا بجيب التار.. وعندما تناهت تلك الأبيات إلى مسامع الطيب ودضحوية رد قائلاً مخاطبًا جمله: أكل الخلفة ولا من كمل البكرية.. وقّ الحوري لي بعثة عريب ناس ريه.. أكان ما اسكت الباكيات وأخلف الكية فوق الكية.. قولة أبو فاطمة يا الصادق خسارة عليَّ.. ومن يوميها «دور» في الخواوير سرق ونهب وضرب . واجتمع ب «طه الضرير صديق ودحيدوب وكونوا رابطة لنهب الجمال والإبل في جميع أنحاء السودان. وقد سجن الطيب ود ضحوية لمرات عديدة وقال في ذلك: الليل والنهار الباب علي مقفول .. وأخذوا البصمة بقياس العرض والطول .. النادرة الطلع عنوانها لأستنبول «إشارة للحكم التركي» ضرب إيديا ياشمة وجرايد الغول .. والطيب ود ضحوية من أسرة معروفة وعاش في بادية «أم شديدة» بالبطانة. وللهمباتة قيم وأخلاق أذكر تلك القصة التي حدثت مع أحد الهمباتة حينما نوى سرقة جمل من أحد الأغنياء ولم تفلح كل محاولاته في ذلك وفي ذات يوم ادعى المرض واستلقى على الأرض في الطريق الذي يمر به ذلك الشخص الغني وعندما مر عليه قام بردفه على جمله فقال له الهمباتي «أنا تعبان شديد خليني أكون قدامك» وقد كان، وبعد فترة قصيرة قال لصاحب الجمل أنا «تعبان شديد أنزل انت وقود الرسن وخليني أنا في الجمل» وبالفعل نزل صاحب الجمل وقام بالإمساك بالرسن، فما كان من الهمباتي إلا أن حث الجمل على الركض والجري قائلاً له «أكان تشوفوا تاني تشوف قعر اضنيك». ولم يتمكن صاحبه من الإمساك به فعرف على الفور أنه ضحية همباتي فقال له على الفور «أنا الجمل خليتو ليك لكن بي فعلتك دي بتكون قفلت باب المروة وتاني مافي زول بقيف لي زولا محتاج»، فما كان من الهمباتي إلا أن قام بإرجاع الجمل لصاحبه حتى لا يتسبب في قفل باب المروءة.