لا يدري أحد على وجه الدقة إلى ماذا استند وزير خارجيتنا علي كرتي وهو يعلن عن وجود «اختراق» في العلاقة مع أمريكا، وهذا «الاختراق» هو ما أدى لتحويل السودان من البند الرابع بحقوق الإنسان إلى البند العاشر، مشيرًا في الوقت نفسه إلى ما أسماه «مساعٍ» تبذلها الحكومة مع الإدارة الأميركية للوصول لتفاهم مشترك لتطبيع علاقات البلدين.. ما جاء في تقرير وزير الخارجية بالبرلمان فيه «تجمُّل» شأنه شأن التقارير الرسمية التي يعدها معاونو الوزراء وهي في الغالب تنقصها الدقة وتجتهد في إبراز إنجازات الوزراء خاصة في مواسم فك «التسجيلات».. لكن الحقائق المجردة والموضوعية التي يعرفها الناس هي أن العلاقات السودانية الأمريكية منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي لم يحدث فيها أي «اختراق» يُحسب لصالح الخرطوم بل «ابتزاز»، نعم ابتزاز أمريكي للخرطوم وضغوط وتهديد وإرهاب، وبالمقابل هناك تنازلات و«كبكبة» من جانب حكومتنا... ظللنا نتابع السياسة الأمريكية تجاه السودان فلم نر فيها تحولاً أوتغييرًا يُبشر بخير أو مؤشرًا لتطبيع العلاقات بين البلدين فهي قائمة على الترهيب والترغيب والجزرة والعصا و«دق الركب» والوعود الجوفاء، وفي كل مرة تتعلق الخرطوم ب «زبد البحر» الذي يذهب جفاء ولا تقبض من الأمريكان إلا الريح العاصفة، وكلما تظن أنها اقتربت من جزرة التطبيع تجد عصا غليظة بالمرصاد.. هذا التفاهم الذي يتحدث عنه وزير الخارجية لم يستطع شطب السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، ولا العقوبات الاقتصادية رفعها، بل إن أمريكا استخدمت نفوذها القوي والمؤثر في عرقلة إعفاء ديون السودان الخارجية، وعلاقة السودان مع صناديق التمويل العالمية وأخلت بكل التزاماتها مع الخرطوم وتراجعت عن كل وعودها وفي كل مرة تتلقى الحكومة صفعة أمريكية على خدها الأيمن فتدير لها الأيسر، ولست هنا مضطرًا لتذكير الناس بآخر صفعة «سفر الرئيس»، وهي الحادثة التي أغضبت الحكومة بشدة، ولما كانت حكومتنا بلا ذاكرة في تعاملها مع أمريكا سارعت الأخيرة ب «التربيت» على كتف الحكومة بحكاية البند العاشر في حقوق الإنسان لتخفف عليها حدة الغضب وتهيئها ل «الصفعة» القادمة، ملف حقوق الإنسان ليس هو قضيتنا الأكثر تعقيدًا مع أمريكا، قضيتنا معها قضية حظر اقتصادي جائر تطاولت سنواته فكان له أبلغ الأثر في اقتصادنا الوطني، وله تأثير بليغ في حركة طيراننا وناقلنا الوطني وتوقف شركات الطيران السودانية، حصار أشد ما تأثر به هو المواطن السوداني فلا وزراء الحكومة ولا منتسبو المؤتمر الوطني دفعوا ثمن المعاناة الناتجة عن الحظر والحصار، قضيتنا مع أمريكا هي وضع السودان في قائمة الإرهاب وما ترتب على هذه الخطوة نفسيًا على المواطن السوداني ود البلد الأصيل الذي أصبح جواز سفره بالخارج حتى وقت قريب جريمة بفعل هذا الإجراء الأمريكي الذي ظاهريًا يستهدف الحكومة وفعليًا يدفع الثمن المواطن، قضيتنا مع أمريكا هي عدم التزامها بتحريك البرك الساكنة واستخدام نفوذها لإعفاء الديون التي أقعدت السودان بفعل تراكم فوائد هذه الديون، أما قضية حقوق الإنسان فهي ليست العنوان الأكبر والأبرز في قائمة الملفات المعقدة وهي بالتالي ليست دليلاً على حدوث اختراق في العلاقات مع أمريكا... ثم أخيرًا انظروا إلى هذه العبارة الواردة في تقرير الوزير: «هناك مساعٍ تبذلها الحكومة مع الإدارة الأميركية للوصول لتفاهم مشترك لتطبيع علاقات البلدين».. بعد «24» سنة من الابتزاز والإرهاب واللف والدوران الأمريكي والمساعي الخرطومية للتطبيع السراب، يعني بعد كل هذا هناك أيضا مساعٍ للتفاهم حول التطبيع... يا دوووووبك مساعٍ... على الحكومة أن تختصر الطريق وتعلم بأنه لن يكون هناك تطبيع مع أمريكا دون أن يمر عبر مهادنة إسرائيل والاعتراف بها، فإما أن تثبتوا في خندق المقاومة والممانعة ودعم الحق الفلسطيني وحماس، أو التطبيع مع أمريكا، فاختاروا يا وزير الخارجية بين الاثنين فلن تستطيعوا الجمع بينهما، حتى لا تضيعوا الوقت في سراب التطبيع وتقدِّموا التنازلات أكثر مما فعلتم.