أحسن أمير الشعراء شوقي حينما قال: قم للمعلم ووفه التبجيلا، والمعلم هو رسول ومعرفة ينير الظلام من الجهلاء، وهؤلاء العلماء والأطباء وكلهم الذين أخرجهم المعلم من ظلام الجهل إلى العلم فهم كما كانوا الآن علماء وأطباء وأساتذة جامعات، والذي تخرج ولم يجد عملاً فإن العلم من أجل العلم وليحمد اللَّه أن استنار عقله.. هكذا سيداتي سادتي لا أقف للمعلم لأوفيه الشكر والتقدير وإنما أقف له ذاكراً فضله في كل لحظة وساعة. أعود بكم لأكثر من نصف قرن من الزمان أقف عند أعتاب الأربعينيات بالتحديد عام 1942 والحرب العالمية الثانية في آخر عمرها وقنابل إيطاليا وألمانيا خصوم جماعتنا الإنجليز المستعمرين السودان وقد ضربوا مدينة كسلا واحتلوها وتصدت لهم قوة دفاع السودان وفرقة المهندسين وضباط مركز التعليم الذين تغنت بهم الفنانة عائشة الفلاتية ذات الصوت الرخيم قائلة (يجو عايدين إن شاء اللَّه عايدين ضباط مركز تعليم يجو عائدين إن شاء اللَّه منصورين)، هكذا، كما أن الطيارة بالخرطوم جاتنا تحوم ضربت حمار كلتوم ست اللبن. في هذا الجو الملبد بالقنابل والمدافع جئت من قرية البسلي بنهر عطبرة طالباً بالمدرسة الوحيدة بالدامر التي تضم المدينة والقرى المجاورة.. وجئت وكنت طالباً جلفاً قادمًا من القرية لا أعرف شيئاً عن البندر وكانت لا توجد عربات من القرية للمدينة وقد جئت مع والدي عمدة البلد رديفاً خلف الشيخ بالحمار ووصلت المدينة بعد خمس ساعات من القرية ونزلت ضيفاً بمنزل ابنة عمي أم الحسين عثمان جيب اللَّه والدة أولاد رحمة اللَّه وكانت لا توجد أفران لعمل الرغيف وإنما كانت هناك بعض النساء يعملن الرغيف في أفران بلدية وكان فرن حاجة نفيسة بت الريف معنا بالمنزل وهي امرأة حمراء ريفية تقرب لي ناس أم الحسين ويقولون لها حبوبة نفيسة وكانت مع الشاي تعطينا رغيفة صغيرة اسمها الحنونة نقرضها مع الشاي، وكان الرغيف من القمح وهو لذيذ الطعم، ولأول مرة أتذوق الرغيف بالدامر، وكنا نفطر بالبتاب وهو من عيش الريف ونأكله بالروب عند حبوبة صافيات، وكله باثنين مليم، أما أولاد الأغنياء الذين يفطرون بالسلات فكانوا هم أطياش الفصول، ونحن الذين نفطر بالبتاب نكون الأوائل، هكذا حظوظ، سيداتي سادتي في هذا الجو الجميل عشت في المدينة في (1942م) طالباً بالسنة الأولى، وكانت الحرب العالمية في نهايتها وعملوا لنا خنادق مقر بالمدرسة حينما تلحق الطيارة بعطبرة أو الدامر يعلن الناظر أن ندخل الخندق وكنا نجد لذة في دخول الخندق حيث نضرب بعضنا بعضاً حيث لا يوجد ألفة ولا معلم هكذا اتنورت عقولنا بالمعلم وأذكر من المعلمين الذين وجدتهم بالمدرسة نظار ومعلمين أذكر منهم محمد إبراهيم عبد اللَّه الدنقلاوي وكان كبير السن وكان يقول للطالب إنعل عكاريتك وسميناه عكاريتك واشتهر بيننا بهذا الاسم، ومن المعلمين شيخ سيد وشيخ الصاوي وعوض عبد الحميد ومحمد أحمد من بربر ومن النظار حسن أبو درق من شندي وشيخ فرح خيري من المحس ورجل منظم في لبسه يلبس فرجيه وقفطان، وكان المعلم في ذلك الزمان لا يلبس بنطلون، وأذكر شيخ إبراهيم عبد اللَّه كليب والأستاذ قاضي من الحصاية هؤلاء المعلمون الذين وعت الذاكرة أسماءهم وأذكر معلماً أيضاً الشيخ عبد الرحيم عبد اللَّه المغربي من آل المغربي من الدامر وهذا جاءنا صغيرًا ولا يلبس بلدي بل كان يلبس رداء، ثم المعلم الأول محمد الأمين الغبشاوي من أهالي الغبش، وهذا كان آخر المعلمين الذين عاشوا وتوفي بعد عمر طويل في هذا العام (2013م) وهكذا كان ينوب عن المعلمين في البرلمان وهو عميد المعهد الفني وأحد المعلمين الذين كان لهم دور في الحركة الوطنية، وهو من حواري الزعيم الأزهري، أولئك هم المعلمون الذين أناروا عقولنا بنور العلم ونقلونا من الجهل إلى النور وتخرجنا من السنة الرابعة الأولية فقط ونحن الآن نؤلف كتبًا في التاريخ والسياسة، وكتابي مذكرات عمدة سابق قدمته إهداء للمعلم ولمعلمين عبد الرحيم المغربي ومحمد الأمين الغبشاوي، أرجو أن أقف إجلالاً وتقديراً للمعلم وسأوافيكم بالزملاء الذين عاصروا في ذلك التاريخ. على المعلمين الرحمة والرضوان والتقدير للمعلم في أي مكان وزمان.