ما إن تمسك قلمًا لتكتب عنه تجده يستعصي أن يسطر عنه في خانة الذكريات.. فأسوأ ما في الذكريات أنها قد تصبح أجمل ما تبقى في المكان.. وهذا ما كان في مشروع الجزيرة الذي كان.. من يعرفه وترعرع فيه سيحكي عن مكان يشبه العرض فيه الحديث عن السفينة تيتانك.. بعزها ومجدها قبل أن تفنى.. عندما تدخل ضاحية بركات لأول مرة تظل متفاجئًا لأطول مده ممكنة لأن ما فيه من فنون وتنسيق وخضرة لن تراه إلا في الريف الإنجليزي.. بتقسيمها المرتب وتراص منازلها وتصنيف منازلها المميز الذي ينقسم إلى غرب الترعة وشرق الترعة.. الترعة التي تأتي من خزان سنار وتتفرع منها جداول صغيرة تصل إلى داخل الضاحية لتسقي أشجارها الكثيفة المتشابكة التي تلونها بشكل عجيب.. من وسط المنازل تنبعث روائح الفواكه وأزهار الياسمين والنرجس وتزين الجهنمية بألوانها الفاقعة الممرات فتظن نفسك لوهلة في منتجع ترفيهي باهظ. تتباين المنازل داخل الضاحية المغلقة على بعضها على حسب الدرجات الوظيفية داخل المشروع فتجد السرايات وهي من اسمها مبانٍ شاسعة على غرار الريف الإنجليزي والعزبة المصرية داخلها بيت أشبه بالفيلا الصغيرة لكبار موظفي المشروع تجاور مبنى الرئاسة العتيق وهي مبانٍ عتيقة أُسست مع تأسيس المشروع الذي كان في عام «1911م» كمزرعة تجريبية لزراعة القطن في مساحة قدرها 250 فدانًا «بمنطقة طيبة وكركوج» شمال مدينة ود مدني تُروى بالطلمبات «مضخات المياه». بعد نجاح التجربة بدأت المساحة في الازدياد عاماً بعد آخر حتى بلغت 22 ألف فدان في عام 1924م. وفي العام الذي تلاه تم افتتاح خزان سنار وازدادت المساحة المروية حتى بلغت حوالى المليون فدان في عام «1943م». والفترة من «1958» حتى «1962م» تمت إضافة أرض زراعية بمساحة مليون فدان أخرى عُرفت باسم امتداد المناقل، لتصبح المساحة الكلية للمشروع اليوم 2 2 مليون فدان. وداخل هذه السرايات تجد كل أنواع الفواكه النادرة من لارنج ونبق مصري نهاية بالحنبك والمسكيت وتجدها منسقة بعناية ويرعاها جنايني متخصص يوفد من مشتل بركات ليعتني بالفواكه المثمرة وأشجار الزينة والنجيلة التي تمتد في ميادين شاسعة فترى جدول الماء يتمطى داخل المنزل الأنيق النظيف فتلتقط ثمار الجوافة المتساقطة في الماء أو تجلس لتراقب مرور هوام الماء داخل الجدول النقي للغاية بحيث تغريك النظافة بأن تغوص فيه بقدميك.. وحتى الحشرات والثعابين لها ألوان جميلة عندما تفاجئك داخل جدول الماء أو أثناء مرورها من سراية لأخرى.. في الخريف يصبح الجو غائمًا وتظهر كل الحشرات التي تعسكر في الحديقة الامامية لكل منزل في حي المدارس الذي أمضيت فيه «19» عامًا من البهجة في منزل إنجليزي الطراز دافئ وصغير وحميم بحديقة أمامية تزينها أشجار الحناء والنيم وتتمايل فيها الجهنمية مع الياسمين تصافح القادم بود. السرايات والمدارس والشبكة والجعليين هي أحياء شرق الترعة وتقابلها في غرب الترعة الكمبو أو بيوت العمال والتي يميزها وجود قطية صغيرة في كل بيت ومعها حي الأفندية وسوق بركات وبعض البيوت الملك التي تضم أشهر العائلات في بركات مثل الباشا وهي أسرة الكاتب الكبير صلاح الباشا والرباع وجمال وغيرها من الأسر العريقة التي قد نكون أسقطنا بعضها سهوًا.. النظام الاجتماعي في بركات أهم ما يميزه عن غيره فقد كان التمازج أهم ما فيها الضاحية المغلقة والتي تتوفر لها كل الخدمات من خلال المشروع العملاق الذي احتضنها بحنو بالغ.. فكانت تتوفر الباصات لنقل الطلاب حتى الجامعة لمناطق دراستهم فتجد الترحيلات تخرج أكثر من عشرين بصًا لكل المراحل التعليمية وكان التعليم بالذات يلقى اهتمامًا أكثر من غيره فمدارسها خرجت العباقرة وخرجت أساتذة أسسوا للمدارس الخاصة في كل أنحاء السودان على سبيل المثال مدارس بايضاب الخاصة معظمهم كانوا أساتذة بمدرسة بركات الثانوية.. ودروس التقوية المسائية كانت تضم خيرة الأساتذة في السودان مما جعل مستوى النجاح والمنافسة مثلاً يُحتذى به في كل الضواحي المجاورة.. وحتى الترفيه أعطاه المشروع مساحته بتخصيص بص للسفر لقضاء الأعياد مع الأقارب في الخرطوم مجانًا. ومن عاش في بركات أيام مجدها يعرف جيدًا التكافل والتعاون المخصصين لبيع كل السلع بأسعار مدعومة كخدمة يقدمها المشروع لساكني الضاحية فتجد العسل بألوانه والطحنية بجرادل ضخمة وغيرها من البقوليات إضافة إلى جوالات القمح والذرة التي تقدَّم بربع سعرها للمواطنين.. ومصنع ألبان الجزيرة قطعًا كان شيئًا يميزها قبل أن تظهر المصانع الكبيرة في السودان وهذه البيئة كانت خصبة ومناسبة للمواشي التي خُصصت هيئة بيطرية كاملة لرعاية أبقار المشروع وبالتالي مراعة المواشي في الضاحية فتجد اللبن متوفرًا في كل المنازل بأسعار رخيصه. ومن أهم الخدمات التي كانت تقدم لأبناء الضاحية من المشروع تعيين الأبناء في رئاسة بركات في وظائف هامشية بمرتب عالٍ كإعانة لأهاليهم ولمساعدتهم في مصاريف الدراسة وحتى بعد التخرج يتوارث الأبناء المهنة والبيوت.. فمن من أبناء بركات لم يعمل في المشروع وأكل من خيرات راتبها؟! وداخل الضاحية كل الخدمات مجانية من ماء وكهرباء بل إذا حصل عطب في التيار الكهربائي سرعان ما يعمل المولد الكهربائي ويصبح المكان مضيئًا.. فأهم ما يميز الضاحية الإضاءة العالية فكل الممرات مضاءة فلا تخشى التجوال ليلاً من حي لآخر وانت تتخطى الرسقالة لتعدى الترعة وتصل الى الحي الغربي او الشرقي برفقة مجموعة من الأصدقاء. في سوق بركات تجد كل الأمزجة والألوان ولا تخرج بدون طلبك أبدًا وتنعطف منه نحو الفرن البلدي وقطعًا في طريق العودة ستجد أكثر من صاحب سيارة يعطيك فضل ظهره ويوصلك هو أو سائقه.. فالسيارات تتوفر بأحدث الموديلات نهاية إلى السيارات المورس مما يعطيها شكلاً مميزًا، وتتوفر للمنازل خدمات صيانة دورية تطلبها من الهندسة المدنية التي ترسل نجارًا أو طلبة أو كهربائيًا ليصلح العطب فورًا ويبدله بجديد دون أن تدفع مليمًا، وفي الإجازات توفر لكل خفير لحراسة منزلك حال سفرك فيما يعرف بأمن المنشآت. كل زائر أجنبي لا بد أن يحط رحاله في الضاحية التي تتوفر بها استراحة تحاكي الفنادق الراقية بنظافتها ومستوى المعيشة فيها نهاية بأنواع الطعام المقدم وأسلوب الضيافة فلا أعتقد أن الطهاة في فرنسا سيقدمون أفضل مما سيقدمه لك الطاهي الرئيسي في ضاحية بركات أسوة بكل ما فيها من كمال وتقدم على كل ضواحي المشروع وحتى الخرطوم. الضاحيه اليوم لن أتحدث عنها، آخر مرة رأيتها تركت شرخًا في قلبي فأغلقت على ذكرياتي بقوة وهربت حتى أحكي عنها أكثر وأكثر دون أن تدخل تفاصيل تقي على ما تبقى من أريج داخل أعماق القلب الباكي.