وقال الكاتب: «لأن الإطراء يختلف تماماً عن المدح وعن تذكر يوم ميلاده وبيان سيرته وفضائله. فإن الإطراء في اللغة: هو مجاوزة الحد في المدح بشيء ليس في الممدوح وقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم كما في هذا الحديث، وإنه كما فعلته النصارى، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله وجعلوه مساوٍ له في درجة الألوهية كما هو معلوم، وأما المسلمون فبحمد الله لم يبلغوا ذلك» قلتُ: وكثير من المدح الذي يُمدحُ به النبي عليه الصلاة والسلام فيه من الغلو ومن الإطراء ما هو معلوم غير مجهول، وقد حصل من كثيرين في هذه الأمة أن فعلوا ما فعله النصارى في نبي الله عيسى عليه السلام.. والكاتب يريد أن يبريء المدائح المشتهرة التي وقع فيها الإطراء المنهي عنه شرعاً وفيها من الغلو ما لا يجوز وفي بعض تلك القصائد إعطاء للنبي عليه الصلاة والسلام ما هو حق لله تعالى دون حجة أو برهان، وفي مقالي الذي ذكرت فيه ما يحصل في المولد من غلو بينت ببيان واضح بضرب أمثلة ونماذج ببعض الأبيات ومن ذلك: قول البرعي في ديوانه: أغثني يا رسول الله إني**مريض الجسم ذو قلب سقيم وقل لا تخش مهما عشت ضيماً** ولا هضماً أيا عبد الرحيم وقوله أيضاً: إليك رسول الله أشكو مصائباً ** يضيق لها صدر الحليم المصابر فأنت رجائي في الخطوب وعمدتي **وأنت ملاذي يوم تبلى سرائري وأنت لنا غوث وعون وملجأ ** وركن ومفتاح لعين البصائر وأنت لمرضانا شفاء ورحمة ** وأنت دليل قد هدى كل حائر ذكرت بعض هذه الأبيات وأضيف لذلك ما يلي: قول البرعي أيضاً: بلهجبو ديمة ناظر بالحب والتفاني ** من كربتي أسعفني من علتي شفاني وقول البكري: ولذ به في كل مرتجى** فإنه المأمن والمعقل وناده إن أزمة نشبت** أظفارها واستحكم المعضل يا أكرم الخلق على ربه ** وخير من فيهم به يسأل قد مسني الكرب وكم مرة ** فرجت كرباً بعضه يعضل فبالذي خصّك بين الورى ** برتبة عنها العلا تنزل عجِّل بإذهاب الذي أشتكي** فإن توقفت فمن أسأل وغير ذلك مما لا يحصى إلا بكلفة مما هو في منثور ومنظوم كثير من الناس، وللمتصوفة نصيب كثير في ذلك، من الغلو وتجاوز الحد في مدح النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا هو الإطراء المنهي عنه، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام حريصاً على أن يحذر من الشرك بالله تعالى ومن الوقوع فيه سواء بالغلو فيه أو في غيره، وبيّن كما بيّن جميع رسل الله وأنبيائه أن العبادة حق لله تعالى، فالذي يدعى لإجابة الدعاء وكشف الضر وإزالة البأس وإجابة المضطر وشفاء المريض هو الله سبحانه وتعالى، وهذا هو حق الله تعالى الذي خلق لأجله الجن والإنس والسماوات والأرض والملائكة وسائر المخلوقات. وهذا الغلو مما يجب أن يحذر منه كل خائف على نفسه في الدنيا والآخرة، خاصة مع انتشاره ونشر بعض وسائل الإعلام له، ويدفع البعض العاطفة والمحبة للنبي عليه الصلاة والسلام دون أن يفرقوا بين حق الله تعالى وحق خلقه ومنهم أفضل خلقه النبي الكريم عليه الصلاة والسلام. قال الكاتب: «وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم شعراء يمدحونه وينافحون عنه منهم: حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحه وكعب بن زهير وغيرهم رضي الله عن الجميع، وأشعارهم معروفه ولا يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم أنه نهاهم عن ذلك ولا حثا في وجوههم التراب»، قلتُ: وأين شعر حسان وابن رواحة وكعب رضي الله عنهم من كثير من مدائح المتصوفة المنتشرة؟! حاشا هؤلاء الصحابة الكرام وحاشا من سار على الهدي النبوي واستقام على التوحيد لله رب العبيد أن يقع في المنهي عنه، فإن النبي محمداً عليه الصلاة والسلام لها المكارم والشمائل وقد مدحه الله تعالى وقال عنه: «وإنك لعلى خلق عظيم» ومدحه ووصفه أصحابه وعلماء الأمة دون أن يجعلوه في منزلة الألوهية، ودون أن يعطوه حق الله من إغاثة المكروب وإجابة الملهوف.. وأضرب مثالاً لما كان يقوله حسان بن ثابت رضي الله عنه وذلك في قوله: أغر عليه للنبوة خاتم *** من الله من نور يلوح ويشهد شهد وضم الإله اسم النبي إلى اسمه** إذا قال في الخمس المؤذن أشهد وشق له من اسمه ليجله ** فذو العرش محمود وهذا محمد فهذا مثال لمدح النبي عليه الصلاة والسلام، وغيره كثير مما نحفظه ونردده في دروسنا ومحاضراتنا، فإن نبينا محمداً عليه الصلاة والسلام «رسول» فلا يعصى ولا ينطق عن الهوى وفي نفس الوقت هو «عبد» لا يُعبد من دون الله ولذلك قال لنا موجهاً محذراً فقولوا «عبد الله ورسوله». قال الكاتب: «ثم ذكر الكاتب أشعاراً من المدائح وأن فيها نوع من الإطراء ذكر ذلك إما جاهلاً بمعانيها وإما مدلساً على القراء لإيهام الإطراء وكلاهما شنيع»، قلتُ : وما ذكرته أعلاه وأمثاله مما لدي من مئات الأبيات التي فيها مثل هذا الغلو والإطراء يؤكد صحة ما أقول ولا يجدي الكاتب هذا الكلام المنثور الإنشائي الذي لا يقوى للدفاع عن ما ذكرته. قال الكاتب: «فإن القيام والجلوس عند ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه نص شرعي بالكراهة فضلاً عن أن يكون إطراء وإن كان غير ذلك فعلى الكاتب إقامة الدليل الصحيح. وقد كان السلف يعظمون النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكره وقد وجد القيام عند ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم من عالم الأمة ومقتدى الأئمة ديناً وورعاً الإمام تقي الدين السبكى وتابعه على ذلك مشايخ الإسلام في عصره». قلت: القيام عند ذكر النبي عليه الصلاة والسلام من المبتدعات في الدين وزعم حضوره تلك الموالد هو من البدع المحدثة ومن الغلو وتجاوز الحد وهو من محرمات الشريعة، ونقدي كان لإدعاء حضور النبي عليه الصلاة والسلام لتلك الأذكار وهو ما أشار إليه القائل بقوله: هذا الحبيب مع الأحباب قد حضرا***وسامح الكل في ما مضى ورى!!! وهذا فيه إدعاء مغفرة الذنوب وهو من الشرك بالله إذ المغفرة من خصائص الألوهية والذي يغفر الذنب هو الله وحده لا شريك له.. فذهب الكاتب يتحدث عن تعظيم الحديث وتوقيره وهذا من «التشتيت» والخروج عن محل النقد، ويتحدث تارة عن الوقوف عند ذكر النبي عليه الصلاة والسلام مستدلاً بفعل عالم!!! فهل هذا يصح دليلاً لإثبات هذا الأمر وهو القيام عند ذكر اسم النبي عليه الصلاة والسلام؟! مع أن موضع النقد هو عقيدة «الحضرة» وذكرتُ مثلاً بالختمية وهي أيضاً عند الطريقة التجانية إذ يضعون قماشاً عصر الجمعة ويَدَّعون حضور النبي عليه الصلاة والسلام تلك المجالس!! والحضرة عقيدة عليها كثير من المتصوفة وهي لا تخص النبي عليه الصلاة والسلام فقط، بل تعدى بعضهم وجعلها لمشايخهم، ومما قاله صاحب ديوان رياض الجنة في حضور النبي عليه الصلاة والسلام لمدحه: أوتيت كل الفضل يابن تميم***ومزية الإجلال والتكريم بحضور خير المرسلين لمدحكم***يرويه كل محدث وعليم، وقال عن أحمد البشير: تبناه خير المرسلين بحضرة** وقال إبراهيم إني له أبُ وقال: ما لاح برق الذاكرين بحضرة** أو كأسهم مزجت بخير مزاج، وقال: بإخلاص أعمال لتدخل حضرة** بها المصطفى العارف الواصل الجيلي وغير ذلك، مما كُتِبَ نثراً ونظماً في هذا الاعتقاد المبتدع ، وهو «الحضرة» ولا يشك في أنه غلو في النبي عليه الصلاة والسلام ولم يدع صحابي أو تابعي أو إمام معتبر في الشريعة حضور النبي عليه الصلاة والسلام لمجلس التفسير أو الحديث أو الفقه أو غيرها من مجالس العلم، والمتصوفة يدعون حضور النبي عليه الصلاة والسلام لمجالس الرقص والصياح وضرب النحاس والطار والنوبات!! قال الكاتب: «بل كان السلف يعظمون ذكر الصالحين ناهيك عن النبي صلى الله عليه وسلم» ستكون افتتاحية الحلقة القادمة إن شاء الله في التعليق على قول الكاتب السابق ببيان أن القوم يمدحون النبي عليه الصلاة والسلام بأبيات عابرة وكثير منها يتضمن الغلو والإطراء المنهي عنه!! إلا أن الجهد الأكبر لديهم والنظم الأكثر في الغلو وصرف حق الله وخصائصه للمخلوقين إنما هو في مدحهم للشيوخ.. وبالأمثلة ستتضح بإذن الله هذه النقطة البالغة في الأهمية ..