سؤال كبير يطرحه الشارع السوداني الآن بقوة: هل ما يطرحه المؤتمر الوطني هذه المرة من تفكيك للهيمنة وارتضاء للتعددية السياسية الحرة وقبول للآخر يتسم بالجدية، وبمعنى أدق هل «الوطني» صادق في هذا الطرح أم أنه يمارس هوايته القديمة في المناورات وكسب الوقت، وتخدير جسد الساحة السياسية المثخن بالجراحات والمرارات؟.. سؤال موضوعي تُبرر طرحه كثير من الخلفيات والمؤشرات والسوابق.. وقبل الشروع في البحث عن الإجابة الموضوعية للسؤال المطروح، ثمة أسئلة فرعية تفرض نفسها هي الأخرى: إذا افترضنا أن مبادرة «الوطني» هذه المرة تتسم بشيء من الجدية، فما هي المعطيات التي تعزز هذه الفرضية؟ وبمعنى آخر ما هي الظروف المحيطة بالموقف الحكومي الجديد والتي تشكل قوة دفع جديدة نحو التسوية الشاملة، والتأسيس لوضع انتقالي يكون منصة انطلاق لمجتمع سياسي حر وتحول ديمقراطي سلمي؟ وما هي درجة استعداد القوى السياسية للتعاطي مع هذه المبادرة الحكومية الجديدة؟ وهل مازالت المرارات القديمة واتساع هوة الثقة بين «الوطني» ومعارضيه بسبب «المناورات والأساليب التاكتيكية» تشكل حواجز نفسية ومتاريس أمام أي تقارب محتمل؟ وما هي الخطوة العملية والتطمينات التي دفعت الآن الترابي والمهدي لإبداء حسن النية بحضور خطاب الرئيس والتعاطي مع هذه المبادرة دون غيرها من المبادرات خاصة من جانب حزب الترابي؟... هذه الأسئلة وغيرها نحاول الإجابة عنها وفقاً للمعطيات السياسية المتاحة، وذلك من خلال هذا التحليل: أولاً: مدى جدية «الوطني»؟ ولنبدأ بالسؤال الأهم: هل المؤتمر الوطني جاد في هذه التحركات؟؟ كثير من المعطيات والملاحظات تشير إلى أن المؤتمر الوطني وصل إلى نقطة النهاية في السباحة على بحر المناورات ولم يعد هناك متسع من الوقت لتضييعه في «التاكتيك»، لأن الوقت المحدد لذلك قد انتهى تماماً والمخاطر والمهددات الأمنية باتت تأخذ فعلياً بتلابيب الوطن، وأن ألسنة الوضع الاقتصادي اللاهبة تكاد تصل إلى أصابع الحكومة الممسكة بهذا الوضع المتردي، وأن الضائقة المعيشية التي لم تعد تُحتمل ربما تقود وحدها إلى انفجار عظيم، كل هذه المعطيات تجعل المتأمل فيها «يعتقد» بأن أي حزب عاقل مدرك لحقائق الأشياء من حوله يقدر هذه المخاطر ويعيد قراءتها أكثر من مرة، ولا يستنكف أن يقدم كثيراً من التنازلات السياسية لتحاشي أية انفجارات قد تحدث، لذلك واستناداً إلى هذه المعطيات الموضوعية يرى أكثر من مراقب سياسي أن تحركات الحكومة ومبادرتها هذه المرة تختلف عن سابقاتها وتبدو عليها مظاهر الرغبة في التسوية والاعتراف بالآخر اعترافاً حقيقياً، لأن اجتماع تلك الظروف التي سبقت الإشارة إليها مع أخرى تتعلق بالخلافات والتصدعات داخل الحزب الحاكم شكلت عناصر ضاغطة على المؤتمر الوطني في اتجاه التسوية الشاملة والإصلاح وتقديم التنازلات وقبول الآخر وتفكيك حالة الهيمنة الأحادية، ولعل هذا ما أدركه بعض قادة المعارضة الذين تفاعلوا ولو قليلاً مع الموقف الحكومي الجديد، بينما الباقون يرون أن هذه الظروف كفيلة بإزاحة خصمهم السياسي العنيد من السلطة دون الحاجة إلى تحركات منهم، وهذا الاعتقاد هو ما يتكئ عليه بعض المعارضين الذين ينتظرون تلك الظروف أن تضع السلطة على أيديهم في طبق من ذهب!! ثانياً: موقف المعارضة ليس من المنطق في شيء أن نتكلم عن القوى المعارضة بوصفها كتلة صماء أو وحدات منسجمة ذات أهداف متسقة، ولعل ذلك يبدو جلياً في مواقف حزب الأمة الذي تختلف أهدافه عن المؤتمر الشعبي الذي يختلف هو الآخر عن قوى اليسار بالتجمع من حيث الأجندة والغايات، وتباين هذه الأهداف تعكسه حالة التعاطي الحالية من جانب كل حزب مع المبادرة الحكومية الحالية، فهناك قوى سياسية مثل المؤتمر الشعبي ظلت متشددة في مواقفها إزاء ما تطرحه الحكومة وترى أنه لا خيار سوى إسقاط النظام، لكنها في نفس الوقت استجابت هذه المرة بشكل فردي بعيداً عن منظومة «التحالف» وكأنها وجدت الضمانات اللازمة لنهايات «سعيدة» للحوار كما لو أنها وضعت تلك الضمانات تحت «الإبطين» الأمر الذي يشير بوضوح إلى أن تمسك «الشعبي» بإسقاط الحكومة كان موقفاً تاكتيكيا لإرغام المؤتمر الوطني على إحناء ظهره للعاصفة وصولاً إلى هذه المحطة الحالية، وهو أمر بلا شك أزعج الحلفاء اليساريين، وبات بالنسبة لهم موضع شكوك وتساؤلات مغلفة بغطاء الريبة، وأكد لهم أن التحالف معهم كان مؤقتاً، وأن أهدافه مرحلية مرسومة لتصل إلى هذه النقطة، وهناك بالطبع قوى أخرى كحالة حزب الأمة، تفضل العزف المنفرد استناداً إلى إرثها ووزنها السياسي وثقلها الجماهيري الذي تعتقد أنه يؤهلها لأن تكون قائدة لتحالف المعارضة وما على الآخرين إلى السير خلفها، وطبقاً لذلك بدت أجندة حزب الأمة منذ البداية مختلفة مع زملائه في التحالف، ولم تبد هناك أية محاولات ظاهرة لبناء تحالفات انتهازية مؤقتة مع بقية القوى المعارضة كما حدث من جانب الشعبي، وهناك قوى اليسار من شيوعيين وبعثيين وناصريين وغيرهم الذين لا يقبلون بشيء سوى إسقاط النظام، وهؤلاء مازالوا ينظرون إلى النظام الحاكم من خلال ذات الزاوية القاتمة التي يرون من خلالها المناورات وأساليب كسب الوقت والاستبداد والرغبة المتواصلة في الهيمنة واحتكار السلطة وعدم الاعتراف بالآخر، وبالمقابل نجد حزبي الأمة القومي والمؤتمر الشعبي على استعداد للتعاطي مع المواقف الجديدة للمؤتمر الوطني، مع إبداء حسن النية في التعامل مع هذه المبادرة الجديدة.. والسؤال الذي يقفز مباشرة هنا، ما هي الدوافع والأسباب التي جعلت مواقف حزبي «الأمة والشعبي» متقدمة على زملائهم في التحالف في التفاعل بإيجابية مع مبادرة الرئيس البشير ووثيقة الإصلاح الشامل التي ظهرت فقط خطوطها العريضة من خلال خطاب الرئيس البشير يوم الاثنين الماضي؟ الانتهازية السياسية ولكي نجيب بموضوعية على السؤال أعلاه لا بد أن نستدعي بعض المعطيات، وذلك من خلال الآتي: أولاً: مواقف الشعبي والأمة ربما قائمة على انطباع أفرزه التغيير الكبير الذي حدث في صف المؤتمر الوطني من إبعاد لعناصر نافذة من دائرة الفعل السياسي، وهي عناصر يعتقد الحزبان أنها قيادات متشددة ظلت تقيم المتاريس أمام الحوار مع الحزب الحاكم، ولا شك أن ظهور المبادرة الحكومية في هذا التوقيت الذي خلت فيه الساحة من تأثير تلك العناصر سيكون مبرراً للتعاطي معها، هذا إن لم يكن إبعاد تلك العناصر جزءاً من أهدافه المستترة «إغراء» وفتح لشهية «عواجيز» السياسة التي تمسك ببعض المفاتيح الخاصة بأزمة دارفور ونحوها. ثانياً: ظل الحزبان يسعيان لاغتنام أية فرصة ثمينة للدخول في الحكومة والولوج إلى مراكز اتخاذ القرار على النحو الذي يريدانه، لكن في كل مرة كانت «صقور» الوطني تقطع عليهما الطريق، ويبدو أن الطريق لذلك هذه المرة بدا خالياً من «الأشواك». ثالثاً: هناك مهددات أمنية كثيرة تشكل خطراً ماحقاً على كل السودان بكل قواه السياسية وشعبه، ولا شك أن أية خطوة شاملة للتسوية وخلق مناخ خالٍ من التوترات والغبن سيقلل من هذه المخاطر التي إذا ما تفجرت فلن يسلم من شظاياها أحد، وربما أدرك زعيما الحزبين خطورة الوضع. رابعاً: حزبا الأمة والشعبي ظلا في سباق خفي وآخر ظاهر في ميدان التسوية والتقارب مع الحزب الحاكم على عكس بقية قوى المعارضة الأخرى، ولعل الظروف الحالية التي يمر بها «الوطني» على صعيده الداخلي مع الضغط العام الذي يواجه النظام عززت النظرة السياسية الانتهازية لدى الحزبين «الأمة والشعبي» وربما ارتأيا أنها الفرصة لترويض «النمر» الذي ظل عصياً عليهما في الماضي. خامساً: يتردد بقوة أنه ومن خلال اللقاءات الرسمية وغير الرسمية أن حزبي الأمة والشعبي وجدا تعهدات قوية بأن المؤتمر الوطني اليوم صار أكثر استعداداً للتعاطي مع أية ترتيبات سياسية لقيام وضع انتقالي ينتهي بحكومة قومية انتقالية تشرف على الانتخابات المقبلة، لضمان منع الأساليب الفاسدة والتزوير، ولعل هذا ما أكده قادة بالمؤتمر الشعبي. سادساً: النقطة أعلاه اصبحت الآن مطلباً مشتركاً بين المؤتمر الشعبي وحزب الأمة القومي وحركة الإصلاح الآن التي التقى الترابي رئيسها غازي صلاح الدين يوم الأربعاء الماضي واتفقا على التمسك بترتيبات الأوضاع الانتقالية وهي تعني ضغط النظام حتى الموافقة على تشكيل حكومة قومية انتقالية تدير العملية الانتخابية وتقوم بالإشراف الكامل عليها، وهذا المطلب سيلتقي فيه تحالف الأحزاب «الإسلامية» مع تلك القوى. عزل وإقصاء أما ما يتعلق بموقف قوى اليسار من المبادرة الرئاسية، فهناك أسباب كثيرة تجعل المؤتمر الوطني والقوى السياسية ذات المرجعية الإسلامية مثل أحزاب المؤتمر الشعبي والأمة القومي والاتحادي الديمقراطي الأصل، غير متحمسة للتعامل معها سياسياً، منها أن هذه الأحزاب ضعيفة الوزن السياسي والثقل الجماهيري، ولا تأثير لها في الساحة السياسية، ولا يمكن الرهان عليها، كما أنها ترى في أيديولوجيتها ومرجعيتها حاجزاً لا يمكن التعامل معه إستراتيجياً إلا في حدود انتهازية مؤقتة، ولعل ما حدث من تجاهل لها بشأن دعوتها لخطاب الرئيس الأخير أفضل دليل، حيث وصلتها الدعوة قبل ساعات فقط من الحدث، كما أكد ذلك زعيم الحزب الشيوعي بنفسه، مما يشير إلى أن الحكومة غير آبهة بها كثيراً، وبالتالي يمكن أن تتعامل هذه القوى بردة فعل مستمرة مع هذا التجاهل المستمر.