في صباح ذلك اليوم كانت حرارة الطقس مرتفعة بصورة رهيبة ولكنها لم تمنعه من أن يمشي راجلاً لأنه لم يكن عنده من خيار آخر يساعده على الانتقال إلى حيث يريد الذهاب باحثاً عن العمل في بلاد الغربة فهو «مفلس» فلا يملك حتى القليل من المال الذي يعينه على تناول وجبة الإفطار ناهيك عن أجرة التاكسي الباهظة.. ربما نسي زملاؤه «العزاب» الذين يستضيفونه أن يتركوا له مصروف اليوم كما اعتادوا على ذلك في كل مرة.. لم يزعل منهم فقد استضافوه ثلاث سنوات متواصلة في السكن ووفروا له كل ما من شأنه أن يكون معيناً له على مواجهة ظروف الغربة بل أحياناً كانوا يتبرعون له بمبلغ ويطلبون منه إرساله إلى أسرته في السودان وعندما كان يرفض استلامه منهم كانوا يتولون هم مهمة تحويله باسمه فلا يعلم بذلك إلا حينما تتصل به أسرته لتنبئه بوصول المصاريف ومنعاً للإحراج كانوا يضعون له مصروف اليوم على الطاولة التي في حجرته خلسة حتى لا يعرف من يكون مصدره وكثيرًا ما كانت تراوده فكرة العودة لبلاده يائساً من حظه العاثر في الحصول على العمل لكنه كان يواجه اعتراضاً شديدًا من زملائه «العزاب» إذ كانوا يرفضون مجرد الفكرة ويلحون عليه بالصبر أملاً في أن يأتي ذلك اليوم الذي يظفر فيه بالوظيفة التي تنسيه كل هموم العطالة. حين انطلق ماشياً على الطريق المكتظ بالسيارات لم يجد من شيء آخر يدرأ به عن نفسه حرارة الطقس سوى صحيفة يومية متخصصة في نشر إعلانات الوظائف كانت ملقاة على الأرض فتناولها بسرعة كحال من وجد شيئاً ثمينا وبعد أن نفض عنها التراب قام بوضعها على رأسه ثم سرح مع هموم أسرته التي تركها وراءه في قريته معدمة لا تملك شيئاً بعد أن جردها هو من كل مدخراتها من أجل تحقيق رغبته في الاغتراب بعد ان رأى العديد من أبناء القرية المغتربين غيروا مجرى حياة أسرهم رأساً على عقب.. من أجله باع أبوه الكارو ثم من بعد ذلك الحصان الذي كان يجر الكارو لينتهي بذلك المورد الوحيد الذي كان يعين الأسرة بالقليل من المال على تلبية متطلباتها الشحيحة أصلاً وانتابه حزن شديد عندما علم بان والده الذي تقدم به العمر ويعاني من بعض المصاعب الصحية صار يعمل أجيراً عند أصحاب المزارع وفي القرى بل فوجيء بان امه باعت مؤخراً خاتم الذهب الوحيد الذي ورثته عن أمها لكي توفر مبلغاً يمكن أبوه من الحصول على الدواء لعلاج مرض السكري.. كانت تلك الذكريات المريرة هي أنيسه أثناء السير وحيدا وحين يجترها تشحن نفسه بالكآبة والحزن وتجبره على ان يذرف الدموع بصمت وأحياناً يشغله اجترارها فيتخطى في سيره الجهة التي يقصدها باحثاً عن العمل لكن الدموع كانت تطفيء لواعج نفسه الحزينة ومع انه كان يرضى عن نفسه في البحث عن العمل لكنه كان يقول لنفسه دائماً متى أرد الجميل لأسرتي التي أحسنت تربيتي وتعبت من أجل تعليمي؟ في تلك اللحظة التي كان منشغلاً فيها مع الهموم الأسرية شعر باعياء شديد وتصبب العرق من جسمه بغزارة حتى ابتل قميصه وبدا كمن كان يمشي تحت أمطار غزيرة فلاذ الى نخلة يستجم تحتها غير ان النخلة لم تكن ظليلة بما يكفي لكنها تمنحه الأمل في أخذ قسط من الراحة قبل مواصلة السير وأثناء جلوسه تحتها بحث بين سعفها عله يجد شيئاً من البلح حتى ولو كان قديما المهم ان يأكل شيئا لكنه لم يعثر على ما يريد فنهض متثاقلا قاصدا تلك الشركات التي تمنحه بصيص أمل بالحصول على الوظيفة التي يبحث عنها.. هو لم يكن يشترط ان تكون الوظيفة مناسبة لمؤهلاته الأكاديمية بل المهم عنده أي عمل يزيح عن نفسه الكابة والحزن ويمكنه من مساعدة أسرته. انطلق ماشياً بخطى مسرعة كما كان يفعل في كل مرة بينما كانت يداه تتناوبان على الامساك بالصحيفة التي يضعها على رأسه ولسوء حظه فان حرارة الطقس اخذة في الارتفاع بصورة رهيبة مصحوبة بارتفاع كبير في نسبة الرطوبة وبينما كان يسعى لتجفيف العرق عن وجهه بيده في كل مرة توقفت سيارة فخمة أمامه.. نظر اليها لكنه لم ينشغل بها فالسيارات الفخمة ما أكثرها في ذلك البلد الغني بالثروات لكن قبل ان يتخطاها لاحظ قيام صاحبها بانزال زجاج بابها الذي في يمينه وينادي: يا أخ.. انت يا الماشي من فضلك، لكنه أيضاً لم يعر الأمر اهتماماً فهو على يقين بان الأمر لايعنيه لا من بعيد ولا من قريب لذلك استمر ماشياً من غير توقف فالوقت ليس في صالحه والمسافة لا تزال بعيدة خاصة لمن يمشي راجلاً لكن صاحب السيارة الفخمة تحرك هذه المرة وتعمد الوقوف إلى جواره وقال: يا زول.. يازول تلفت هو يميناً ويسارًا على امتداد الطريق عله يرى ذلك الزول المحظوظ الذي يناديه صاحب السيارة الفخمة فلم يجد غيره وعندئذ تأكد بما لايدع مجالاً للشك انه هو المقصود بالمناداة فالتفت الى صاحب السيارة من خلال الباب الأيمن ثم قال: تقصد منو يا أستاذ؟ رد عليه بالطبع أنت وهل يوجد «زول» غيرك يمشي الان في هذا الجو الخانق ثم فتح الباب الأمامي وطلب منه الركوب معه. في البداية لم يستجب لطلب الركوب معتقداً انها مجرد دعابة أو كذبة شهر ابريل لكنه تذكر انه في منتصف شهر مايو لكنه تفاءل خيراً بان الرجل يريد ان يقدم له خدمة في هذا الجو الحار على الأقل توصيله لطالما بدأ معه الحديث بالجو الخانق وقبل ان يركب نظر لنفسه فشعر بالحرج من حالته البائسة وملابسه المبتلة بالعرق فتردد في الركوب بيد انه امتثل لالحاح صاحب السيارة الفخمة فهمّ بالجلوس على المقعد الخلفي لكن صاحب السيارة الفخمة أصر عليه بالجلوس في المقعد الأمامي الى جواره وأثناء السير دار بينهما حديث فسأله صاحب السيارة الفخمة: ما الذي يجبرك على المشي في هذا الجو الخانق؟ لأنه لا يوجد عندي البديل. ماذا تقصد بالضبط؟ أنا عاطل عن العمل لأكثر من ثلاث سنوات والان في طريقي للبحث عنه بالمناسبة أنت شخص محظوظ ارتسمت على وجهه ابتسامة لا معنى لها ثم رد عليه يا أستاذ كده قول شيء اخر.. أين هو الحظ اذا كنت عاطل عن العمل ثلاث سنوات. المهم خليني أقوليك كيف انت محظوظ ففي البنك الذي أتعامل معه عندي مبلغ كبير جداً وأريد التصدق به لشخص محتاج فعلاً وأعتقد أنت ذلك الشخص الذي كنت أبحث عنه.. ثم فتح الدرج المجاور له وأخرج دفتر الشيكات وعندما هم بالكتابة بحث عن قلم في سيارته فلم يجده ثم سأله عندك قلم يازول لأكتب لك شيكا بالمبلغ. أجابه في ذهول وهو يكاد لايصدق ما يجري أمام عينيه بل داهمته أفكاره الحزينة في تلك اللحظة كحال من تعرض عليه أعماله يوم دفنه في القبر ومع انه يعلم بانه لا يملك قلماً ولا حتى قيمة القلم لكنه تلمس جيوبه بل كل أجزاء جسمه وحتى قدميه فقد فعل ذلك بحكم الضرورة ثم رد في ارتباك وانفعال وحزن. لا..لا.. لا. رددها كثيرا بصوت يوحي بالرغبة في البكاء وعندما لاحظ صاحب السيارة الفخمة حالت الكآبة التي انتابته اقترح عليه ان ينزل حينما تتوقف السيارة عند الاشارة المرورية الحمراء ليسأل أصحاب السيارات المتوقفة ان كان معهم قلما قبل انتقال الاشارة الى الضوء الأخضر حيث يصعب عندئذ الانتظار وبالفعل نزل هو وأخذ يجري بين السيارات حتى كاد ان يسقط على الأرض من فرط الاستعجال بينما العرق يتصبب منه ويغطي كامل وجهه وأحياناً يمنعه رؤية من يتحدث اليهم لكنه لم يتوقف عن طرح سؤال واحد وهو من فضلكم أعطوني قلم.. مر الوقت سريعاً وهو لا يزال يركض لاهثاً بين السيارات بينما عيونه ترقب صاحب السيارة الفخمة لكنه فوجيء بالاشارة المرورية تنتقل سريعا من الحمراء الى الصفراء ثم الى الخضراء لتنطلق السيارات مسرعة فخرج هو باعجوبة من وسطها ووقف على الرصيف وعيونه مشدودة تتابع السيارة الفخمة تمضي بعيدة عنه حتى غابت فانتابته صدمة نفسية فاستمر هو واقفا في مكانه ينتظر الاشارة الحمراء ليمر بين السيارات ويسأل من فيها من فضلكم أعطوني قلم وعندما يعود الى زملائه العزاب في نهاية اليوم تكون معه كمية كبيرة من الأقلام التي يقضي معها جل وقته يحسبها تارة ويتحدث إليها تارة أخرى وعندما قرر زملاؤه تسفيره الى أهله كانت الحقيبة التي معه مملوءة بالأقلام.