الأبيض المدينة الشهيرة بكردفان عُرفت باسم «عروس الرمال» لأنّ تلالها وراوبيها تزدانُ بمشاهد طبيعية خلاّبة لاسيما في موسم الخريف. إنها مدينة ذات ماض عريق، وحاضر مجيد زاهر، منذ مملكة الفونج الإسلامية التي اتسع سلطانها، ونعمت بعدالة حُكمها أجزاء كبيرة من مناطق البجة وكردفان في أوائل القرن السادس عشر الميلادي. وقد اشتهرت مدينة «الأبيض» بمكانتها السامية الرفيعة في رحاب العلم والمعرفة، حيث نجدُ في كتاب «الطبقات لابن ضيف الله»، أسماء نُخبة مرموقة من كبار علمائها وفُقهائها الأجلاء، أمثال الشيخ مختار بن محمد جودة الله.. العالم الفقيه الذي علّم طلابهُ دروس الفقه، والتوحيد، والفقيه محمود العركي، والشيخ غانم أبو شمال الكردفان، وفيها مسجد الشيخ إسماعيل الولي، العالم الشاعر الفقيه: وبمدينة الأبيض في حاضرها اليوم، سوق للصمغ العربي يُعتبر من أكبر أسواق الصمغ في العالم، ومنتوجها منه أجود الأنواع. ومن أفضل المواسم المناخية في الأبيض، موسم الخريف، حيثُ يكسو أديمها سُندسٌ أخضر بهيج.. وفي ليالي الصيف المقمرة بمدينة الأبيض، يطيبُ السمر والأُنس على الرمال البيضاء الساحرة التي أحبها الشاعر الدكتور سعد الدين فوزي، وأشتدّ بها كلفهُ وهُيامه، إذ خلبت لُبهُ روعة المشهد البديع الجذّاب حين يسكبُ البدرُ لجينه على الرمال، فيهتف ُ في وله، وهو في سن اليفاعة، مُناشداً أباهُ أن يُدني إليه البدر، لعله يسعدُ بلقاء الحبيب النائي، ويقول الشاعر عن مدينة الأبيض، عروس الرمال: إني حننتُ إلى الرمال، وكنتُ من عُشاقها وبعثتُ حفّاقي، رسول هوى، إلى خفّاقها ولكم هتفتُ بسرها.. وسبحتُ في أعماقها صاحبتُها عند الصبا.. وقبستُ من إشراقها كم من ليالٍ والضياءُ يُمدُ سحراً مُترفا ولقد أطلّ البدرُ من طرف السماء وقد غفا في نوره شجنُ الغريب، وبعضُ حُلم قد عفا وأنا لديّ حرم الصبا النشوان ألعبُ مُسرفا فإذا تعبتُ، أقولُ يا أبت إليّ، وقد صفا البدرُ، هات البدر لي.. علّي أُداعبُ من جفا وكلما أطلّ القمر على مدينة الأبيض، تتبدّدُ الظُلُماتُ وتنجلي عن كُثبان الرمال.. وقد هام الشاعر بضياء القمر، وهو يطوفُ بأجنحة الخيال في تلك الربوع الحالمة الساحرة، مُمتعاً قلبهُ وناظريه بروعة الجداول الرقراقة ومياهها المُنسابة، بينما ترتعُ الماشيةُ في السُهول والوديان بمرح وحبور، وقد أصاخ الشاعر سعد الدين فوزي سمعهُ لحفيف الأشجار، وخرير الجداول، وكأنها مزمارٌ عبقري تترددُ أنغامُهُ عبر أصداء الذكريات التي تُذكي أوار الشوق والحنين في قلبه المرهف. وما أسعدهُ وهو يرنو إلى السماء بنشوة وابتهاج، مُتطلعاً إلى الكواكب السيّارة ويكادُ يسمعُ نجواها وهمسها، حالماً بمباهج الدنيا الجديدة البعيدة، ويقول الشاعر في هذا المعنى: الليلُ والمتعُ الخوالدُ فوق كُثبان الرمال والجدولُ الرقراقُ موّج سيرهُ بعضُ الدلال والبهمُ ترتعُ في السُهول، وتحتمي خلف التلال وأنا أرفُ مع الهوى بين الأشّعة والظلال ولرُبّ مزماز خفي النبع مُندفع الخيال هاجت به الذكرى وهاج مع السنا قلبُ الليالي ولكم رنوتُ إلى السماء أبثُها أمل الصغير وسبحتُ في دنيا الملائك بين ولدان وحُور وطربتُ من نجوى الكواكب، سلسلت مثل الغدير بيضاءُ في طُهر الضياء، نقية مثل الضمير وإذا جنحتُ إلى الظلال، غفوتُ في كنف السرير وحلمتُ بالآصال، بالدنيا البعيدة، بالخرير وبأسلوب شعري، عذب رقيق، ينتقلُ بنا الشاعر الدكتور سعد الدين فوزي من أجواء الجداولُ، وأصداء الذكريات والأشواق والحنين، إلى دُنياوات أخرى، تشرقُ فيها الشمسُ، وتغمرُ الكون بنور الصباح الباكر، إذ تنسابُ أشعتُها بهدوء وتؤدة كالعاشق المضنى الذي ينهضُ لتوه من مرقده، وفي عينيه أثرُ النعاس يحدُ من نشاطه وانطلاقه، ولكنّ الشاعر الهمُام يأبى حياة الدعة والخمول، ويُلقي بنفسه في خضم الحياة وأمواجها المتلاطمة، المتدافعة، غير آبه لما يُلاقيه من صعاب في سبيل تحقيق الأمل المنشود وبين حناياهُ تطلعاتٌ وطموحات تدفعُهُ دوماً لمواصلة مساعيه من أجل غد أفضل، وهو يشدو بانشراح وغبطة، جاعلاً من سُحُب الخريف بشائر سعد، ورموز تفاؤلُ، وهنّ يخطرن في السماء بسنى الأمل الوضيء، وكأنهن ملكات حسن، لو غضبْن مرة، لجِئن بالويل.. والثبور..!! وهذا رمزٌ قصيدةُ الشاعر، إذ نظم قصيدتهُ هذه إبان هيمنة الاستعمار البريطاني على مقاليد الحكم في السودان، مُشيراً إلى غضب الشعب حين يثورُ في وجه المستعمر الدخيل لاسترداد حقوقه السليبة! ويسترسلُ الشاعرُ في وصف مشاهد الطبيعة الخلاّبة في مدينة الأُبيض، عروس الرمال، قائلاً: كم منظر والشمسُ تنفُضُ ثوبها فوق الحقول صفراءُ، من أثر النُعاس، تُطلُ في بعض الذهول كالعاشق المُضنى، كزهر ضلّ في قلب السُهول وكأنها وقفت، أو أنّ مسيرها خطوُ العليل وكأنما وقف الزمانُ مُراقباً أمر الدليل ومضى الزمانُ بركبه الصخّاب في دُنيا عجاب ما بين جياش الضلوع، وبين عزمات الشباب فغدوتُ في لججُ الحياة، كمن يفيءُ إلى عُباب لججُ تُقاذفُني، وتقصُمني كمنكسر الخوابي والناسُ في الدنيا أخو وهمٍ، وفلسلفة كذاب أو غاشمٌ يحتالُ في الدنيا على ظُفر.. وناب! وغدوتُ، هل تُجدي اليراعةُ عند فلسلفة السيوف أشدو، وليس لدي من أمل سوى سُحُب الخريف متألقات وكالزهور البيض في الأفُق اللطيف نُزِّهن عن درن الحياة، ومِلن عن همم الصُروف وخطرن في صدر السماء برقة الأمل الرهيف ملكاتُ حُسن، لو غضبن لجئن بالويل العنيف وفي مدينة الأبيض التقى الشاعران: الطيب محمد سعيد العباسي ومحمد عوض الكريم القرشي، وجمعت بينهما أواصر الود والإخاء الصادق.. وشاءت الأقدارُ أن يبرح الشاعر محمد عوض الكريم القرشي، دنيانا الفانية وكان ريحانة المجالس في مجتمع «الأُبيض» إلى جانب إسهامه الإبداعي في مجال الشعر الغنائي والعمل الصحفي.. وقد حزّ في نفس الشاعر «الطيب العباسي وآلمهُ فراقُ رفيق دربه وصديقه «القرشي» فنظم مرثية حزينة تعبّرُ عن لواعج الأسى والأشجان لرحيل خليله، ويجترُّ ذكرياته معه بمدينة «الأَُبيض». ويبعثُ بمرثيته إلى أهل الأبيض بعد انتقاله إلى مدينة جوبا، مُخاطباً أصدقاءهُ وأحباب الشاعر الراحل الذين أحسُّوا معه بفداحة الخطب بوفاة القرشي، قائلاً: طاب في ربعها الحبيب مقامي بين أهل وبين صحب كرام ما مللتُ الثواء فيها وما سئمت روحي منها على مدى الأيام أهلُها الغُرُ عترتي وثراها كثرى قريتي، وأرض فطامي يا عروس الرمال جئتُك أسعى من ورائي هوى وأنت أمامي جئتُ أسعى وفي الفؤاد حنينٌ دافقُ النبع باللظى والضرام فسكبت الأمان في روحي الولهى ورّويت لي فؤادي الظامي من سهول الجنوب أرقُبُ طيفاً منك يسري موشحاً بالظلام وعلى وجهك الحبيب أرى الحزن مُقيماً، أرى فؤادك دامي لا أرى بهجة الحياة كما كنتُ أراها من قبل سبع.. وعام أنكرت عيني الأنام، فليسوا منذُ ولّى محمدٌ، بالأنام يا سمير الحياة كنت رفيقي وصديقي وساعدي.. وحُسامي ولقد كنت في البيان فريداً وفريداً.. في اللحن.. والأنغام كنت كالواحة التي يفيء إليها مستجير من دهره.. أو .. ظامي ما أفاد الغداة صبري وما أطفأ نار الأحزان دمعي الهامي ربّ أنزل محمداً جنة الخُلد وبارك هناك طيب المقام وقد أوحت مدينة الأبيض للشاعر محمود إبراهيم شرقاوي قصيدة بعنوان:«عروس الرمال» نشرها في ديوانه: «أحلام وآمال»، وقد صوّر بلغة شعرية سلسة، مشاهد الطبيعة والحُسن والجمال في الأبيض، ولم يغفل عن ذكر شجرة «التبلدي» وأثرها الحميد المفيد، غطائياً واقتصادياً في حياة المواطنين. ويقول الشاعر محمود شرقاوي في قصيدة :«عروس الرمال»: إذا انتثر العشب فوق التلال أو.. اخضر سطح الربى والرمال فقف دونها لوحة كالخيال وسبّح لخالق هذا الكمال ورتّل أغاني الصبا والجمال إذا سار ركب رشيق الحجال وإن ماس في ثوبه شادن تستّر كي يستثير السؤال فيسبيك آناً بلحظ قصير ويهديك آناً لحاظاً طوال ويبسم إن أنت من سحره سحرت، فتهفو لوصل محال إذا أجفلت مثل أنشودة ولحن يحار لهنّ المثال ودوح التبلدي أنعم به كمستودع للحياة والظلال وفي مجمع الماء رأد الضحى وحياة الجنان.. ودنيا الخيال فرتّل أغاني الصبا والهوى وسبّح لخالق ذاك الجمال ويرسم الشاعر بشير سر الختم عثمان بأسلوبه الشعري الرصين صورة زاهية بديعة لمدينة الأبيض وكردفان عموماً في ديوانه: «صدى القاع» قائلاً: يا كردفان برملك الفضي وبروضك ا لمخضوضر الغضّ وبظلك المسود مرتعشاً وبظلك السحساح المرفضّ وبدفئك الأزلي منسكباً وبسهلك المترجرج البضّ لخليقة أن تذكري أبداً في الخالدين بجنة الأرض بنت الرمال نضمها شغفا ونرد عنها البرق في الومض فيك السبيعة أسفرت وبدت تختال في دعة وفي عرض فالسحر فيك وفي رباك غدا مستوطناً هيهات أن يمضي! يا جنة الأحلام وارفة جادت عليك سحائب الفيض وسقتك سارية بلا أمد تروي الحياة وفاتن الروض وتعيد حسنك يا نعاً نضراً وتذود عنك غوائل الغيض!!