عمنا السيد يوسف شخصية طريفة وحافظ للكثير من الحكم والحكايات، وحكاياه حقيقية عايشها في أرض الجزيرة.. الجزيرة التي تنتج الحكمة كما كانت تنتج القطن وتغذي اقتصاد السودان.. يا لهفي عليها اليوم. قال عمنا السيد في ذلك الزمان كان المزارع مخلصاً لحواشته، والزمن كان حينما كان مشروع الجزيرة «صبياً».. تجري مياهه عبر الترع، وارضه صادقة في الانتاج.. وانسانه مخلصاً في العمل.. لكنه وبعد ان غادره الانجليز لم يجد الانصال الذي يوازي جهده بالقدر الكاف في بداية الحكومات الوطنية المتعاقبة.. فكان المزارع يذهب «للصرف» عقب كل فترة حصاد ويصرف «ملاليم». من هؤلاء كان رجلان «أحمد وبلة» صديقان من قرية واحدة ربطا كفاحهما معاً في العمل بالحواشات وحواشة كل واحد بجوار الآخر. يوم الصرف كل واحد يشد حمارو ويترافقان للمكتب وكل واحد معاهو «ختمه الخاص» يوقع به على الدفتر امام المحاسب ويستلم الفيها النصيب.. بعدين يغشوا السوق، واليوم داك يوم فرح للاسرة. وذات يوم وقف احمد كالمعتاد امام المحاسب، فاتضح بانحسابه «حبايب».. يعني الحواشة كانت «مطلوبة» ذلك ما يعرفه المزارعون هناك حينما يخصص المفتش عمال لاكمال العجز في الزراعة فتبقى على حساب مالك الحواشة. فخرج احمد يقصد «حماره» في الخارج في انتظار ان يمن الصراف على صديقه «بلة» فيستدين منه بما يعود به لاسرته. وقف «بلة» امام الصراف حينما جاء دوره واخرج الختم وكان آخر واحد في المكتب امام الصراف.. فأخذ الصراف يعد له القروش «ريالات».. ريال بعد «ريال» كان الريال ابوعشرين قرش له قيمة اقوى من دولار اليوم. تلفت «بلة» حوله ووجد نفسه وحيداً امام الصراف واحس بان طاقيته كادت تطير من رأسه بالرغم من انه «مكربها» قوي.. ثم بلع ريقه عدة مرات والصراف ولم يتوقف الا بعد ان اكمل الريال العشرين.. وعشرين عرق بارز على جبين «بلة» ظهرت تتصبب عرقاً وهو يختم «بارتجاف» واضح لم يلاحظه «الصراف» على الاوراق. خرج «بلة» ووجد صاحبه ينتظره على احر من الجمر امام حماره. فقفز على الحمار وانطلق مسرعاً لم يعر صاحبه نظرة لانه يعلم انه سيتبعه.. ثم ظل «احمد» يلاحق صاحبه ويمطره بالأسئلة: «مالك يا زول ملبوش كدي؟».. الحاصل شنو ؟.. ها زول اقيييف وريني الحقيقة.. ما صرفوا ليك؟ لم يتوقف بلة إلا عند مدخل الحلة وأخبر «احمد» بما حدث وحذره ان هو تحدث بهذا الذي حصل «حيخسرو». قال احمد: «ها زول اكيد الصراف غلطان.. وباكر الحكومة بتجيك في الحلة؟.. أجاب «بلة»: دي فرصة جاتني واقعة من السماء اسكت ساي يا زول بس انت الزم خشمك. وظل «بلة» ايام يترقب في الحلة وأقام بشكل دائم في ديوان العمدة يتصيد الاخبار خوفاً من اكتشاف المصيبة. وذات يوم وهو في الديوان فاذا به يلمح على البعد شرطي الهجانة يركب جملاً في طريقه لديوان العمدة.. فاستقبله «بلة» في الخارج وقلبه يكاد يخرج من صدره واناخ له الجمل قائلاً: نعل ما في عوجة يا جنابو؟ لم يلاحظ الشرطي ارتجاف بلة.. واجابه مافي عوجة انا جيت للعمدة «للقطعان» بس. ارتاح بعدها «بلة» وقرر هو وزميله احمد ان يفتحوا دكان بما كسبه بلة لا يدريان احلالاً هو من ماله ام حرام.. الا ان ذلك لم يسعدا به طويلاً فبعد ان فتحا الدكان كثرت اسئلة ناس الحلة: - «ها ناس من وين جبتوا القروش؟.. هازول «بلة».. الشيء كتلتوا ليكم زول؟.. معقول بس ليلة القدر تجيكم براكم.. ها «بلة» الحاصل شنو يا زول كدي ورينا يا احمد؟ وإزاء تلك النقة الكثيرة والرقابة النافذة من أهل الحلة غادر احمد وبلة الحلة إلى غير رجعة بما كسباه من مال لا يدريان احلالاً كان أم حرام!!.