تصريح مبشر ومزعج في نفس الوقت جاء على لسان مساعد رئيس الجمهورية إبراهيم غندور الذي قال فيه (ماضون في محاربة الفساد أينما كان ومتى ما توفرت أدلة الفساد فستجد أذناً صاغية ويداً باطشة). أما البشرى التي جاءت على متن هذا التصريح فهي أن الحكومة أخيراً قد استشعرت خطر الفساد الذي ظل ينخر في جسد البلد حتى وصل إلى ما هو عليه الآن من حال لا يحتاج إلى توصيف. وأنها أي الحكومة قد أعلنت حرباً لا هوادة فيها وأجمعت أمرها على أن تجلب على المفسدين بخيلها ورَجِلها وتحصرهم وتقعد لهم كل مرصد ولا تأخذها بهم رأفة حتى تقضي عليهم وتقطع دابرهم. ولكن الجزء المزعج في هذا التصريح يكمن في هذه العبارة (متى ما توفرت أدلة الفساد) وهي العبارة الصادمة التي ظلت دوماً بمثابة (فرمالة) وحائط صد وعقبة كؤود في طريق محاربة الفساد واستئصاله. وللوهلة الأولى تبدو العبارة وجيهة ومفحِمة، كون مقتضيات العدالة تحتم عدم أخذ الناس بالشبهات دون أدلة واضحة وملموسة، ولكنها في حقيقة الأمر ونتيجة لإساءة استخدامها أصبحت (كلمة حق يراد بها باطل). فقضايا الفساد لا تحتاج إلى أدلة مادية (مسبقة) وقد لا توجد أدلة عليه من هذا النوع على الإطلاق وهذا ما تتصف به الكثير من قضايا الفساد خاصة تلك المتعلقة بإساءة استخدام النفوذ والصلاحيات الممنوحة بموجب القوانين واللوائح لشاغلي المناصب في مؤسسات الدولة المختلفة بمختلف درجاتها ومسمياتها. والمطالبة بالأدلة والبراهين المسبقة على فساد يمارسه موظف كبير أو مسؤول دستوري يعتبر نوعاً من التعجيز والإعضال، فليس بوسع الأفراد أو الجماعات أن يحصلوا على مثل هذه الأدلة فهذه تقع ضمن مهام وواجبات أجهزة الدولة الرقابية المدنية منها والنظامية المنوط بها القيام بهذا الدور وليس أدل على ذلك من أن واقعة الفساد التي تفجرت مؤخراً بمكتب والي الخرطوم وشغلت الرأي العام كشفتها إحدى هذه الأجهزة. وبالنظر إلى القليل الذي رشح من تفاصيل عن هذه الواقعة حتى الآن فإنه كان من المستحيل على غير هذه الأجهزة الحصول على أدلة تصلح لتوجيه اتهام قوي ومتماسك يدين المتهمين. لا ندعو أبداً إلى أخذ الناس بالشبهات والظنون ولا يمكن لعاقل أن يدعو إلى ذلك، بل على العكس الشرع يدعو إلى درء التهم والحدود بالشبهات وفي القوانين الوضعية الشك (الشبهة) يفسر لصالح المتهم، ولكن في نفس الوقت لا بد من إقتفاء أثر المؤشرات الدالة على وجود الفساد. فالأدلة على الفساد تختلف عن مثيلاتها في الجرائم الأخرى، فهي تأتي (لاحقة)، وتتمثل بصفة أساسية في مظاهر الثراء المختلفة التي تظهر بشكل مفاجئ أو تدريجي على سلوك المفسد وتصرفاته في مظهره ومسكنه وملبسه وإنفاقه وفي الغالب تمتد هذه التغيرات لتشمل ذويه وأقاربه، بصورة لا تتناسب إطلاقاً مع مستحقاته المالية عن الوظيفة وهنا مربط الفرس. فحين تبدو هذه المظاهر للعيان لا بد من توجيه سؤال مباشر (من أين لك هذا؟) وهو سؤال مشروع ومنطقي وضروري ولا حرج فيه ويعطي فرصة لمن يوجه إليه أن يبرئ نفسه بالبرهان والدليل القاطع وإن لم يستطع فلا يلومن إلا نفسه، وكذلك يعطي الفرصة للدولة أن تصون المال العام وتحفظه من المعتدين والمفسدين مهما علا شأنهم وتكف أيديهم عن نهبه وتقطع الطريق على من تراوده نفسه أو من (غشّاهو) الشيطان ودلّه بغرور ليأكل من مال الناس سُحتاً تقشعر منه الجلود. لقد وضع لنا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم سقفاً عالياً جداً تتقاصر عنه كل الرقاب مهما استطالت، وذلك في القصة المشهورة للمرأة المخزومية التي سرقت فقد أقام عليها الحد رغم حسبها ونسبها الرفيع وقال قولته الشهيرة بالحق (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد) ثم أقسم بربه وهو الصادق الأمين (والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها) فمن أشرف وأكرم منها رضوان الله عليها وهي بنت خير البريا وخير من وطئ الحصي؟.