كان ذلك في العام 1991 ولما لم يمض على ثورة الإنقاذ الوطني سوى بضعة أعوام، تلتمس فيها وتتنكب طريق وسبل الرشاد.. لتقيم على أرض صلدة، أهم مرتكزاتها الفكرية والقيمية التي تحمل فيما بعد وتتضمن خطابها السياسي بكامل ثقافتها السياسية ومقاصدها نحو خلق مجتمع رأتْ فيه الثورة أن كل التجارب السياسية التي كانت سابقة لها، تعددية وشمولية لم تكن من العلم والمعرفة والمقدرة والقوة وعدم التشرذم ما بعد الاستقلال ما يؤهلها لأن تضع دستوراً لبلاد يصطحب وينظر بعمق لاستنهاض الهوية السودانية الوطنية، ومن ثم فليختلف الناس حسب الثورة إن هم حتماً سيجدون قانونهم وأعرافهم مدونةً تصلح لكل زمان وأوان!. بل كانت ثورة الإنقاذ د أخذها الزهو العسكري في حرب لم تستطع إيقاف جحافلها حكومة الصادق المهدي إبان الديمقراطية الثالثة.. فأصبحت المدن تسقط على أيدي الجنوبيين وأبناء االنوبة الذين يبشرون بسودان علماني جديد خالٍ من الشريعة.. فكانت هذه الحكومات متهمة لدى الإنقاذ بوضع سرج أعوج على ظهر السودان المعفر بجراح حرب تندلق مذ أن تمّ إعلانه السياسي.. مضت الثورة بكامل بزتها العسكرية وفلسفتها السياسية لتتغلغل وتخاطب الوجدان الديني الشعبي والهوية الوطنية والسياسية لإنسان السودان.. فكانت الحرب هي الهاجس الذي ظل يؤرق قبولها في الشق الجنوبي للقطر فعمقت ْ الجراح أكثر وغارت أعمق في ملفات التقاطعات الآيديولوجية والعقدية.. ففجت الثورة لها مسلكاً وسلكتْ طريق الحرب لإرساء دعائم السلام.. كان التغيير والإصلاح وسياسة تقصير الظل الإداري والحكم الفدرالي كثف جحافل المجاهدين نحو حرب ٍ رافعين فيها شعار (هي لله لا للسُلطة ولا للجاه) .. فتناثر شباب الوطن شماله ووسطه وغربه وأبناء كردفان الكبرى.. انتشروا في أدغال الجنوب ومجاهله وأغواره كانوا على ثيوقراطية عالية من التشجيع وإيمان بالشهادة .. فحتما ً لن يرضوا بالدولة العلمانية ولو دانت ْ لهم جوبا من أول رصاصة! ولم يكن الإعلام آنئذ ِ ليتجاوز إعلام الحرب وصناعة الموت وإخراجه بعدسات من قضوا نحبهم خلف كاميراتهم أمثال جعفر عبد الهادي الذي دربناه بالمركز القومي على التصوير والتحق بساحات الفداء وكذا أسامة الدولب هذا المصور الجميل.. نعم قضيا نحبهما خلال عدستيهما.. وكنا في إعلام المركز القومي للإنتاج الإعلامي الذي أسسناه برعاية المرحوم الزبير محمد صالح، أول من نشرنا جريدة المسيرة لتحمل وتبشر بالخطاب السياسي والفلسفة الثقافية لثورة الإنقاذ الوطني.. كان مدير المركز في العام 1992م كمال حسن علي ولكن بعد مضي خمسة عشر عاما ً تقلد فيها أعمالاً ذات دلالات قوية في خدمة الدولة الثيوقراطية (الدينية) يتم تكريمه ومكافأته بأن يصبح سفيرنا بالقاهرة والآن، يعود إلى الخارجية السودانية بالخرطوم.. وكان هناك جمال شريف رئيس تحرير المسيرة يغرق الآن في رتب داخل الجهاز وكان من بعده المرحوم محمد الفاتح أحمد بريمة الذي تم ابتعاثه والأخ خالد موسى على مرأى من أعيننا الصغير ة إلى ماليزيا فعادا الأول حاملا ً درجة الدكتوراه بجدارة رحمه الله فيما لم يتمكن الثاني لأسباب ربما كانت تتعلق بالعمل العام.. فيطير خالد موسى دفع الله إلى السلك الدبلوماسي في أمريكا ثم يقوم بأعمالنا ببرلين وربما يأتي ناطقا ً باسم خارجيتنا بالسودان. ثم يدخل علينا أو شاب تحت شجرة المركز القومي التي جُزتْ الآن لتوسع القاعات والأفواه في المركز في العام 1992 كان يتحدث لنا عن الشهادة والجهاد ذلكم كان هو معتز موسى وزير الكهرباء الآن ليمزق قلبنا من بعده أخوه إيهاب موسى الطالب اللماح الذي لقي ربه شهيدا ً في الجنوب.. في أول رتل من المجاهدين.. غير أن الدكتور محمد الفاتح محمد بريمة هذا الرجل الجميل الذي لا تكاد تسمع له صوتا ًوهو على قمة رئاسة جريدة المسيرة التي يعتبرها الغرب في تلك الأعوام الناطق الإعلامي الرسمي باسم الحكومة الأصولية في الخرطوم.. ذهب دكتور الفاتح أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة الخرطو م إلى ربه شهيدا ً في حادث حركة ثلاثة أعوام من الآن.. وكان قد أوصل قافلة ً لبعض أهله في شمال كردفان ليخطفه الموت من حضن بنيه وزوجته الأجنبية ألا له الرحمة.. نعم كنا نجيد ونسرع في نشر أخبار الأحياء والأموات فالمركز يعج بالكثيرين من أمثال الصوارمي خالد سعد الذي كنت (أرأسه) هو والدكتورة الآن عزيزة عبد الفتاح بالقسم الثقافي بالمسيرة قبل أن أمارس عملي كمحرر في القسم السياسي في المسيرة، ولكن الصوارمي رأسني في جريدة القوات المسلحة حينما وضع تلك الثلاث نجوم ليتدرج في التوجيه المعنوي لينطق الآن بالخير والشر الذي يحاك بنا وضدنا.. رجل مهذب يجيد العربية وشاعرا ً فطحلا ً.. سارت على دربه الأخت احتفال حسن أحمد لتصبح الآن رتبة كبيرة في الشرطة بعد أن أودعت وحملت ْ فايروس المركز القومي للإنتاج الإعلامي وحقنت ْ به شرايين برنامجها ساهرون.. فيما ذهبت نازك حسن سكرتيرة ً في الDDR .. ولكن في هامش الشرف والنخوة والعزة والشموخ ظللت ُأنظر إلى هؤلاء بعد إذ ْ لفظ المركز كثيرين مثلي خارج دُوره ليتعامل معنا من خلف الكواليس.. ولعل اعتماد سياسة الإقصاء the othernes للآخر هذه.. تجعلنا نعيد كتابة التاريخ الفكري لتلك الحقبة .. لكن أرجو ألا أنسى شيئا ً جاء بعد 12 عاما ً من بعدنا الفاتح الحسن الشريف المهدي ثم سناء حمد.. نعم إنها تجربة ربع قرن من العمل الصحفي ولا يزال التاريخ غير مختلف كثيرا. ً