عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. «6» للشاعر السوداني الكبير، والناقدالأدبي القدير، والمعلم الجليل، صاحب «ألحان وأشجان» و«ظلال شاردة» محمد محمد علي، قصيدة بعنوان إفريقيا، كانت من ضمن مقررات التعليم العام في الثمانينات، صّور لنا فيها إفريقيا على أنها قارة سوداء بائسة ومتخلفة بسبب الاستمعار، الذي جثا على صدرها، ونهَب ممتلكاتها، وتمرغ في نعيمها وأذلّ شعوبها أفريقيا كانت مجاهل ظلمة** وكأنّ من خلقوا بها لم يخلقوا سمن الدخيل بها وأخصب أهله** وكساه من ألق الهناءة رونقُ وبنى القصور الشامخات يحفها ** روض تعانقه الجداول ومونق ثم عاد وبث فينا صباحاً مشرقاً لإفريقيا، التي سعى أبطالها للوحدة الكبرى، والتحرر ، حتى نالت استقلالها، وودعت تلكم الحِقب العجاف إفريقيا طوت الظلام وودعت ** حقباً عجافاً لا تعي لا تنطق لكن أذا أمد الله في عمر شاعرنا، وعاش بيننا في هذه الأيام، ونظر إلى واقع إفريقيا المرير، وحسّ بما تعانيه دولها من حروب، جوع، ظلم، انقسامات وموت، لدعا أفريقيا إلى العودة إلى عهد الاستعمار، واعتبر قصيدته «إفريقيا طوت الظلام وودعت» كذبة كبيرة على الأجيال التي بشّرها بالفجر الجديد. «7» منذ أن ودعتُ مدينة نيالا في ذاك الشتاء القارس، تركتُ بيته منهلاً عذباًً للأصدقاء، الأهل والفراشات الجملية، تزدحم العربات الفارهة أمام بوابة بيته الأنيق عند كل مساء، الكُل يكن له احتراماًً فائقاً، لأن قلبه كاللبن، ويده مبسوطةً كل البسط، لأصدقائه ورفقاء دربه في التعليم الذي لم يتعد الثانوي. يصطف المساكين والمجانين والشحاذين أمام بابه على مدى الأسبوع، ليلتهموا بقايا الطعام التي تعود في الصواني الكبيرة. كان يقصده الشعراء والحكامات والهدايين، في كل جمعة ،ليكسوه حُللاً من المدح النبيل. عدتُ بعد عامين فقط من غربتي في مدينة الأسمنت والضجيج، وتوجهتُ من المطار نحو بيتي الذي ينام في حضن ذلك الحي الشعبي البعيد عن سنتر المدينة، وسَلك بي سائق العربة طريقاً ضيقاً مُؤدياً إلي أحد معسكرات النزوح، التي طوّقت المدينة كالسوار في معصم الحسناء، فوجدته جالساً علي عنقريب صغير «هباب» أمام بيت مُشّيد من المواد المحلية، وبعد عناق قصير، قلتُ له: وما الذي أتي بك هُنا؟ صمت برهة، وتدفق الدمع الحزين من عينيه وقال لي بصوت مجروح: لقد عضني الدهر!! قلتُ له: وأين الأصدقاء الذين منحتهم جُلّ مالك؟ رد قائلاً: هل تعرف أنا حالي مثل حال ذاك الشاعر الذي قال: إذا قلّ مالي فلا أحد يصادقني** وإذا زاد مالي فكل الناس خِلاني فكم عدو من أجل المال صاحبني** وكم صديق لفقد المال عاداني «8» كان السنجاكة «شعراء شعبيين بدار فور» يفرضون نظاماً اجتماعياً علي تلكم القرية النائية، التي نصبهم مجتمعها قُضاة ورُقباء علي عاداته وتقاليده، حيث يمدحون من يحافظ عليها، ويذمون من يخالفها أو يخترقها «خاصة النساء»، فمثلاً كان مجتمع القرية يحرّم علي النساء والفتيات الأكل في الأسواق، أو في حضرة الرجال، خاصة منتجات القرية، من فقوس «تبش» وستيب، وقصب سكر وغيرها، إلا ليلاً أو بعيداً عن العيون. ويُحكى أن إحدى فتيات القرية، دخلت الجامعة وسرت في أفكارها المفاهيم المدنّية، وضربت بعادات وتقاليد أهل القرية عرض الحائط، حيث اعتبرت تلكم القيود التي يضربها المجتمع على فتياته، نوعاً من أنواع التخلف. فذات يوم دخل أحد السنجاكة منزل أسرتها، فوجدها تأكل فقوساً بيدها اليمني، وفي يدها اليُسري دفتر مذاكرتها، فلم تختف منه أو تكترث له، وواصلت مذاكرتها وأكلها للتبش، فما كان من السنجاكي إلاّ وأن حكمها على فِعلتها الشنيعة وتغنى بحُكمها في المدى «مكان اللعب» قائلاً: فتح كتابي قاعد بذاكر أول ما جاني حرف أم عصاقل أبوها أطلس بمخو ساطل وأمها طويلة أم أضافر أم حنافر لقيتها بتعافر قل ليها شنو قالت لي باااكُل ورخيص الفقوس بحنن الكافر وحركة ضروسها باص الفاشر «9» كانت تعرف جيداً منذ عقيقتي أن أسمي «محمد» ولكن معلم الرياضيات الاتحادي وقتها، كان يقول للطلبة والطالبات، كلما أحرزتُ أعلى الدرجات، هذا سوف يكون لكم وزيراً للتجارة مثل الدكتور أبوحريرة «وزير التجارة وقتذاك»، فأعجبها الاسم، وتبنت نشره بين أترابها وزملائها وسكان الحي والمدينة، حتى ناب عن إسمي الحقيقي. قابلتها ذات يوم مع صاحباتها خارجات من بوابة مدرسة برام المتوسطة، وكأنهن أسراب دباز، نادتني واحدة منهن بصوت ناعم، كهديل الحمام يا «أبا حريرة». فهزّ النداءُ لُبها، وولّّد فيها غيرة سوداء أعمت عقلها، فجاءتني اليوم التالي وبراءة الأطفال في عينيها، والندى الفضي يحفر خديها، وقالتْ لي بأنانية حارقة: «أوعي تاني واحدة تناديك أبوحريرة»، قلتُ حاضر، ولكن: أمنحيني قبس إبتسامتكِ لأكتب قافيتي الأخيرة وخبئيني من شمس شوقكِ تحت ضفائركِ الطويلة وناديني بالاسم الحنين صحي أشواقي الأسيرة أنا في عيون كل الناس محمد إلاّ في عينيكِ أب«حريرة»