كان الركون إلى كهوف القبلية والاعتصام بمياميها من سمات البداوة ومراحل التكوين الجنيني الأولى لمسيرة أي أمة من الأمم ومنحة من منحات انطلاق التكوين الأول لأي شعب يحبو في مدارج التطور إلى أن يشب على الطوق ويصبح أمة ولقد أفاض في هذا الصدد العلامة عبد الرحمن بن خلدون في كتابه «العبر وديوان المبتدأ والخبر في معرفة أيام العرب والعجم والبربر ومن جاورهم من ذوي السلطان الأكبر» حول عصبيات القبائل ودورها في تأسيس الممالك رغم أن ما ذكره ابن خلدون كان تعبيراً حقيقياً عن دافع حقبة العصور الوسطى وصراعات السلطة فيها باعتبار أن تلك العصبيات عالجت واقعاً يختلف عن واقعنا الحالي مع فوارق الزمان والمكان والثقافات وتطور العمران وما صحبه ولازمه من تحولات والتي فيها كثير من الدول التي كانت بحجم امبراطوريات وظهرت الدولة القومية المتعارف عليها وإذا نظرنا إلى واقع السودان فلقد شهد تاريخ تطوره الاجتماعي والسياسي مراحل بدأت بطور العشيرة والقبيلة وإرتقى دور القبائل عبر تجمعات تحوي داخلها عدة قبائل تقودها طوائف دينية ولقد شكلت الطائفة دوراً في تطوير الحركة السياسية والاجتماعية وانتقلت بالممارسة من قيادة زعيم القبيلة إلى فضاء ورحاب الطائفة وزعيمها ولعبت الطائفة دوراً في الواقع السياسي والاجتماعي والديني وكان يمكن لهذه الطوائف وعبر التطور الطبيعي لأي شعب في طريقه لتشكيل أمة أن تنتقل الطائفة إلى ساحات أوسع وتدخل مشروع البناء القومي الشامل كما حدث في تجربة الهند. ولقد حاولت بعض القوى السياسية التي ظهرت بجانب الطوائف السياسية أن تعبر عن روح قومية ووطنية خارج مضارب الطوائف مثل ما طرح من فكر قدمته بعض الأحزاب ذات النزوع القومي العربي أو النزوع الاشتراكي الأممي وفي الحركة الإسلامية حينما برزت إلى حيز الوجود كانت تتحدث عن رسالة الإسلام وهي رسالة كونية وعالمية تتجاوز وتتسامى فوق القبائل والعشائر والاثنيات بحكم عالمية الاسلام وأنه جاء إلى الناس كافة ولكن ما حدث في السودان كان رده قادتها الحركة الإسلامية حينما أقدمت على انقلاب عسكري على السلطة في عام «1989م» وكانت أولى انجازاتها هي حل ومصادرة الأحزاب السياسية بل ومطاردة كادرها البشري واغلاق دورها وحجب كل صوت إلا صوت أهل الانقلاب وحينما التفت قادة الانقلاب العسكري إلى الدعم والتأييد الشعبي والجماهيري وكانت الأحزاب معطلة ودورها مغلقة وحقها مهضوم والسلطة كانت في لهاث وسعار تبحث عن تأييد وزخم شعبي وجماهيري خارج أطر الأحزاب فلجأت الإنقاذ منذ عصرها الأول إلى مرابط القبائل وشيوخ العشائر أي كانت هذه الخطوة ردة بالمجتمع ورجوع القهقري عقوداً سحيقة إلى جوف الماضي فرجعت الممارسة الحزبية التعددية وحلت مكانها الممارسة القبلية رغم أن أهل الإنقاذ كان شعارهم هو الإسلام وكما هو معلوم بالبديهة أن الإسلام رسالة كونية لكل أهل الكوكب ولكن بدلاً من أن أهل انقلاب «1989م» يسعون إلى تطوير الأحزاب الطائفية والإرتقاء بها وبالوطن إلى فضاء القومية والوطنية رجعوا بنا القهقري وخلعوا نعليهم ودخلوا الوادي المشبع بروح القبلية وأضحت القبيلة حاضرة في المشهد السياسي ولأول مرة في التاريخ وإلى يومنا هذا أضحت موجات الحجيج الأعظم من قادة القبائل وزعماء العشائر تأتي إلى العاصمة مشاركة في صنع القرار وفي تشكيل الجهاز التنفيذي على مستوى المركز والولايات وأضحى المثقف السوداني ابن القبيلة راكضاً خلف الشيخ أو زعيم القبيلة باعتباره ذا نفوذ وخطوة لأهل السلطان ويمكن له أن يفرض ابن القبيلة على صانع القرار وأضحت المحاصصة القبلية ثقافة راسخة وثابت من ثوابت الإنقاذ وتمرغت الانتلجنسيا السودانية في أوحال قبائلها باعتبارها الطريق الأسرع والأقصر للوصول إلى حياض السلطة فتساقطت المبادئ والإمكانات والقدرات والتأهيل وأضحى أهم وأكبر مؤهل هو زعيم القبيلة أو العشيرة عن ابن القبيلة ورتع كثير من مثقفي السودان في هذا المرعى الخصيب وتمسكوا بأهدابه وأصبح المثقف السوداني مهما كانت درجة تأهيله الأكاديمي أحد حداة القبيلة أو العشيرة أو الطريقة الصوفية فلقد دخلت الإنقاذ وفي إطار البحث المحموم عن تأييد تتجاوز به الحركة السياسية دلفت في إناء الطرق الصوفية ودخلت معها في غزل وغرام وهيام من أجل تأييد تلك الرايات الراسيات والطبول الداويات والملابس ذات الألوان الصارخات والمضحك أنه قبل أكثر من مائة عام حينما قام الإمام المهدي بثورته هضم في أحشاء ثورته المجيدة كل الطرق الصوفية وأصبحت ترساً في ماكينة الثورة بل انتقل بها ومعها من دولتها التي أسستها في رحم الغيب الباطني إلى دنيا فقاد المتصوفة الجيوش وتقدموا الصفوف جداً وقادة الثورة ثورة التحرر الوطني ضد المستعمر لم يغازلهم صاحب الثورة من أجل تأكيد فحسب بل حشد طاقاتهم وطبولهم المدوية أضحت نفيراً للجهاد ووضعوا الألواح جانباً وامتشقوا الحسام وتجاوزوا نيران الشكابة وأشعلوا نيران الثورة في كل ربوع البلاد فقهروا المستعمر. أما الإخوة في الإنقاذ فإن أمرهم لعجيب دخلوا مع تلك الطوائف الدينية في تحالف من أجل دعم سلطة الإنقاذ عبر غزل لا ينقطع من قادة الإنقاذ حول الشريعة ودولة الإسلام والذود في حياضها رغم أن هذا المشروع الرافع شعار الإسلام والشريعة جاء بالدكتور جون قرنق نائباً لرئيس البلاد ومن بعده سلفا كير نائباً لرئيس البلاد وحينما كان الاختيار اختار الجنوب أن ينفض ثيابه ويغادر والشعار الإسلامي كان وما زال عبر تحالف مع القبائل وقادة العشائر ورأينا رأي العالم أجمع فشل هذا التحالف الذي ظهرت أسمى تجلياته في دارفور فمتى يفيق قادة المؤتمر الوطني ويمارسوا سياسة حزبية حقة تتجاوز فسطاط القبيلة والعشيرة وتتعاطى مع أبناء الوطن بحكم الانتماء والعطاء دون الردة إلى قبيلة أو عشيرة!