المشروع الذي طرحته جماعة أنصار السنة المحمدية الذي يهدف لوحدة الصف الإسلامي في السودان، يعتبر بكل المعايير »نقلة نوعية« في جانب مهم جداً من نهج وفكر هذه الجماعة السلفية، تصل لحد وصفها بأنها بمثابة نقطة تحول كبرى وتاريخية في مسيرة الجماعة عبر تاريخها وتجربتها منذ إنشائها أواخر ثلاثينيات القرن الماضي. هذا الجانب المهم يتمثل في القبول والاعتراف بالآخر، ذلك أن هذه الجماعة منذ نشأتها وإلى وقت قريب كانت لا ترى ولا تعترف بأي قواسم مشتركة تجمعها بالكيانات الإسلامية الدعوية الأخرى بالبلاد بمختلف مسمياتها وخاصة الطرق الصوفية، كانت الجماعة في السابق تطرح نفسها للناس كبديل أوحد لكل الكيانات الإسلامية العاملة في مجال الدعوة وتقدمها للناس على أنها دعوة واجبة الاتباع وأن الاجتهادات الفقهية لمرجعيات الجماعة وهم شيوخ وعلماء أفاضل بالمملكة العربية السعودية مثل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، والشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمهم الله لا تقبل النقاش وتؤخذ كمسلمات لا يرضون نقدها أو التعقيب عليها، وكان الغلو والتشدد سمتين أساسيتين لا تخطئها العين في طريقة الجماعة في طرح دعوتها للناس في عقودها الأولى، لذلك فقد ظل انتشارها يسير على نحو بطيء، أضف إلى ذلك أن الجماعة كانت تحارب كل أشكال الثقافة والفنون، وكانت لها آراء سالبة في وسائط الإعلام المختلفة خاصة التلفزيون، ولكن بمرور الوقت والتطور الهائل الذي حدث في هذه الوسائط أدركت الجماعة أن هذه الوسائط هي مجرد أوعية وأدوات يمكن استخدامها في الخير أيضاً، فأصبح للجماعة وجود ظاهر وفاعل في مواقع التواصل الاجتماعي بعد أن كانت تعتبرها رجساً من عمل الشيطان. وفيما يتعلق بالسياسة فقد كانت الجماعة تحرص على الابتعاد عن خوض لجتها وتنأى بنفسها عن كل ما يستعدي عليها نظام الحكم القائم، وتميل إلى مسايرته متكئة على الأمر الرباني بطاعة ولي الأمر والنهي النبوي عن الخروج على الحاكم إلا بكفر بواح. لذلك فقد سلمت الجماعة دون غيرها من الكيانات الدينية الأخرى من التنكيل بها من قبل الأنظمة الشمولية المتعاقبة، وكانت دائماً في تصالح معها. كما قلت في مستهل هذا المقال إن طرح الجماعة لمشروعها الداعي الى وحدة الصف يعتبر تحولاً نوعياً في مسار الدعوة الذي تتبناه هذه الجماعة، إذ أن ذلك ينبغي أن يعني أن الجماعة قد تخلت عن نهجها التقليدي المتمثل في دأبها ومثابرتها للقضاء على من «يخالف» اجتهاده اجتهادها، ويعني أيضاً أنها أي الجماعة تقبل أن تكون بعضاً من كل، وجزءاً من نسيج واسع يتألف من العديد من الجماعات والكيانات الاخرى دون أن تكون لها الكبرياء على هذه الجماعات والكيانات، ويعني كذلك أيضاً أن الجماعة قد أدركت أن الاختلاف في الاجتهادات الفقهية فيما لم ترد فيه نصوص قطعية ينبغي ألا يكون مدعاة الى الشقاق والتدابر وألا يقف حاجزاً منيعاً في وجه وحدة أهل السنة والجماعة بمختلف مسمياتهم، ويعني أيضاً تدشيناً لحقبة جديدة من التصالح مع الطرق الصوفية التي كانت تناصبها العداء منذ النشأة الأولى للجماعة، فلا تصمهم بالشرك. وبهذه المناسبة ستوضع صدقية الجماعة وجديتها في دعوتها لوحدة الصف الإسلامي في المحك وتحت الاختبار في ساحات«المولد» هذا العام، فإن هي غيرت من نهجها القديم الذي كان يقوم على مهاجمة الطرق الصوفية والانتقاد الحاد لممارساتها، فإن ذلك سيضفي مصداقية كبرى على دعوتها لوحدة الصف، أما إذا استمرت على نهجها القديم فذلك يعني نسف المشروع كلية، ودعوة الجماعة لوحدة الصف الإسلامي يعني أيضاً أن تقبل الجماعة بوضع يدها فوق أيدي مشايخ الطرق الصوفية من أجل الحفاظ على استقامة وسلامة وصحة وحدة الصف الإسلامي، ويعني كذلك القبول بالديمقراطية ونظمها كوسيلة لا مناص منها لكفالة تداول سلمي للسلطة، وبالحوار كأداة لحل الخلافات والوصول الى كلمة سواء بين مختلف مكونات المشهد السياسي والاجتماعي بالبلاد، ويعني كذلك أن تنخرط الجماعة بفاعلية لتلعب دوراً مؤثراً على خشبة المسرح السياسي وتكون لها إسهامات وبصمات واضحة في كل مناحي الحياة وأن تتخلى عن تلك «السلبية» التي اتصفت بها مواقف الجماعة في السابق وألا تعود الى لعب دور «الواعظ» الذي يكتفي بإلقاء المواعظ ثم يذهب لحال سبيله دون أن يحرك ساكناً لإعانة من يعظهم على كيفية جعلها واقعاً معيشاً. أما اذا لم تُحدث الجماعة تغييراً في سلوكها وتعاملها مع الآخرين تبعاً لما أشرنا إليه آنفاً ولم تغير ما بها ليتناغم ويتسق مع طرحها الجديد، فإن هذا الطرح لن يعدو أن يكون مَثَلُهُ «كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلداً» .