لله درك الكرنكي فقد كتب كعادته ما يعجز غيره عن كتابته مما أدعوكم للتمعُّن فيه ليس بغرض الاطلاع وإنما حتى تقتنعوا بالظلم الفادح الذي يمارسه بعض شياطين الإنس ويفرضونه على الحقيقة فلئن اعترف أحد متمردي جنوب السودان قديماً بأن أهل الولايات الشمالية هم الأحق بالتمرد فإن الكرنكي قد أبان صحة قول الشاعر: لعمرك ما ضاقت بلادٌ بأهلها ولكن أخلاق الرجال تضيق كما أبان ما خفي للكثيرين ما أُتيحه اليوم من خلال إعادة نشر مقاله في الصحيفة الأوسع انتشاراً. «تحالف كاودا»... «ساقط» في الجغرافيا كلّ سكان ولاية نهر النّيل من بدوٍ وحضر، يبلغون «900» ألف نسمة، أي نصف سكان «أمبدّة»، أو ربّما أقل من النّصف، كما يبلغ كلّ سكان نهر النيل ثلثي عدد سكان مدينة نيالا. الذين يتحدّثون عن مناطق مهمّشة في السودان، لا يعلمون شيئاً عن السّودان. الذين يتحدَّثون عن مناطق مهمشة «ساقطون» في الجغرافيا. يتركّز سكان ولاية نهر النيل في «5%» من مساحة الولاية. «95%» من مساحة الولاية هي فراغ سكانيّ. يخترق الولاية نهر النيل من الجنوب إلى الشمال، ويخترقها نهر عطبرة من الشرق إلى الغرب. الولاية عبارة عن جنّات كامنة عن يمين وشمال، ولكن!. هل يمكن أن يفسِّر «الكاوديّون» الذين أجرموا وحملوا ويحملون السلاح باسم التهميش، سبب تناقص سكان ولاية نهر النّيل، حتى أصبح عدد كلّ سكانها أقل من نصف سكان أمبدّة؟. إن لم تكن هذه المنطقة في السودان خلال قرن كامل من المناطق الأقل نمَّواً، فماذا تكون؟. هل العيون «الكاوديَّة» العنصرية التي ترى تلك المناطق غير مهمّشة، عيون صحيحة أم سقيمة؟. من تلك المنطقة المهمشة الأقلّ نموّاً، هاجر إلى ولايات سودانية أخرى أسلاف عبد الله الطيب والتيجاني يوسف بشير ومحمد أحمد محجوب وأحمد ود سعد شاعر المدائح الشهير وأب شريعة ومحمد المهدي مجذوب، وغيرهم. كما هاجر عددٌ كبير من رجال الأعمال السودانيين الشهيرين، أو أسلافهم، الذين بدأوا حياتهم من الصفر في ولايات أخرى، مثل الشيخ مصطفى الأمين وإبراهيم مالك وأبوزيد أحمد والخواض وأبو سنون وإبراهيم طلب وآل البرير، وغيرهم. لأسباب سياسية امتنعت الإدارة البريطانية عن إحداث تنمية في الجنوب وهمَّشت الجنوب وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، ولأسباب سياسية وانتقامية كذلك، همّشت وحطّمت المدن التجاريّة السودانية الشّهيرة. حيث عاقبت سواكن وبربر وشندي ووضعتها على مسار الإضمحلال والتلاشي. ولاية نهر النيل يرجع تاريخها إلى ما قبل الميلاد. حيث كانت جزءًا من مملكة كوش القديمة 1730 300م ثم مملكة علوة 580م. كانت تلك المنطقة هي بيرمنجهام افريقيا، هي موطن تعدين الحديد. حتى القرن التاسع عشر كانت بها أهم المدن التجارية في السودان، وهي شندي وبربر. بل حَكَم السودان مصر من تلك المنطقة. كانت شندي أكبر مركز تجاريّ في إفريقيا، حيث تأتيها القوافل التجارية من سنار وكردفان وإثيوبيا والمغرب والجزيرة العربيَّة وإريتريا. كانت ملتقى تُجَّار الأقطار الإفريقية والآسيوية. حيث يتمتعون بحماية ملك شندي أي «مك» الجعليين. حيث يتم تبادل السلع وإعادة تصدير بعضها إلى الهند و«عدن» ومنها إلى أوربا. اليوم محلية المتمّة يبلغ عدد سكانها فقط «128» ألف نسمة. كلمة «متمّة» تعني «المملكة». عند زيارتها تجد مملكة من مكارم الأخلاق. لكن لا تجد طرقًا أو شبكات مياه أو ازدهارًا اقتصاديًا. بل أين هي تلك المملكة بعد تعرّضها لمذابح جماعية دامية على يد القوات التركية الغازية في عام 1821م، كما تعرَّضت لمذابح بشعة أخرى على يد قوات حكومة السودان عام 1898م. قبل مجازر «صبرا وشاتيلا» ومذابح «سربنتزا» و «أرمينيا»، عرفت المتمَّة المذابح الجماعيّة. ذلك برغم أن ولاية نهر النيل ظلّت طوال تاريخها درعاً متقدماً في الدفاع عن السّودان. وذلك منذ الماضي العريق الباسل إلى شهداء الثمانينيات والتسعينيات من أمثال محجوب محمد موسى وخالد العوض محمد خير والمعز عبَّادي وعلي عبد الفتاح وأحمد البشير الحسن، وغيرهم مَن سامح بمهجته شوقاً إلى لقاء ربِّه عزَّ وجل. كتب «ألان مورهيد» في كتاب «النيل الأزرق» أنّ فرسان معركة «كورتي» ضد القوات التركية الغازية، كانوا في المعركة يتقدَّمون إلى الأمام يرحِّبون بالموت وهم يقولون «سلام عليكم». منذ أن خلق الله تعالى الموت، كما خلق الحياة، لم يسمع الموت ولم يرَ، كما سمع ورأى ذلك اليوم مَنْ يرحِّبون به مستبشرين يقرئونه السلام. كانوا يرحِّبون بالموت، كما يرحِّبون بالضيف الكريم!. كذلك فعلوا في معركة «النِّخيلة» قرب عطبرة ضد قوات كتشنر. أيضاً كما فعلوا في معارك بربر بقيادة الشيخ محمّد الخير ضد الحكم الغازي. وفي معركة «أبوطليح» بقيادة «عليّ ود سعد» شقيق «عبد الله ود سعد» كان ثلاثة عشر ألف فارس في 17/يناير 1885م يحسمون معركة تحرير الخرطوم في 26/يناير/ 1885م وتطهير السودان وإعلان دولة الشريعة. تلك المنطقة بايعت بقيادة «علي ودسعد» الإمام المهدي في «قدير». كما شارك زعيمها «عبد الله ود سعد» في تحرير الخرطوم وإسقاط غردون. لكن انتصرت حروب الإبادة والفقر وكسبت الجولة، فأجلت السكان والتنمية عن ولاية نهر النيل. تلك الولاية كانت مركز الحضارة السودانيّة. الرحلة اليوم في أراضي وسهول ولاية النيل الشّاسعة الصامتة، من بدايتها إلى نهايتها، تذكِّر بما قاله عامر بن الحارث الجرهمي... كأن لم يكن بين الحجونِ إلى الصَّفا أنيسٌ... ولم يسمُرْ بِمكّةَ سامرُ... بلى نحن كُنَّا أهلها فأبادنا... صروف الليالي والجدود العواثرُ. الذين حملوا السّلاح ضدّ الدولة باسم التهميش أخطأوا خطأ فادحاً سيئاً في حقّ السّودان وأهلهم ووطنهم. بعد أن يسود العقل سيعلم الأشرار في «تحالف كاودا» العنصريّ أن ولاية نهر النيل بدأت تلتحق بركب الفاشرونيالا والجنينة والدلنج في خدمات المياه والكهرباء والإذاعة والتلفزيون والهاتف، بينما لم تلتحق بها بعد في مجال الطرق والمستشفيات والجامعات والمطارات. إذا حال سوء الأحوال الجوية دون هبوط طائرة في مطارالخرطوم ستغادر تلك الطائرة إلى مطار في مصر أو السعودية. حيث لا يوجد مطار دولي في شندي أو عطبرة أو بربر. لا يوجد مطار مناوب في تلك المنطقة القريبة من الخرطوم. حيث صارت مصر والسعودية أقرب إلى الخرطوم منها!. الرحَّالة الغربيون الذين كتبوا عن ولاية نهرالنيل في القرن التاسع عشر، كما عرض «ألن مورهيد» في كتاب «النيل الأزرق»، إذا قاموا اليوم بأسفار جديدة في المنطقة، لن يجدوا كثيراً يضيفونه إلى مذكراتهم وملاحظاتهم التي كتبوها قبل مائتي عام. لكن سيجدون، إلى جانب جبال بقايا الحجارة البركانية، في المنطقة بين جبال «قِرِين حجر» و «عقبة منقول» ثلاثة وعشرين خلوة و«37» قرية مجموع سكانها سبعة آلاف مواطن. برغم التهميش المتطاول ما يزال شعار سكان نهر النيل الكفاف والعفاف والكرم. ما يزال شعارهم فاستغنِ ما أغناك ربُّك بالغنى ... وإذا تُصبْك خصاصةٌ فتجمَّلِ... واعلمْ بأن الضيف مخبرُ أهله بمَبيتِ ليلته وإن لم يُسألِ. بعد أن يسود العقل ويعمّ السلام السّودان سيعلم أشرار «كاودا» هذه البدهية الغائبة. حيث لا يوجد منطقة مهمّشة واحدة في السّودان غادرها سكّانها وانخفضت كثافتها وأصبحت مقابرها أكبر حجماً من مدنها! مثلما حدث لولاية نهر النيّل. سيعلمون أنّ آثار الحضارة السودانية القديمة في النقعة والمصوّرات البجراويّة وودبانقا وديم القرَّاي وأم اسود والضّانقيل، أصبحت أكثر عدداً من مواقع التنمية والتطوّر في الولاية. أصبح ماضي الولاية أكثر شهرة من حاضرها ومستقبلها. أصبح موتها أكثر شهرة من حياتها.