الثقافة كلمة شاملة تدل على مجموعة القيم والعادات والتقاليد والاعراف التي تعيش وفقها جماعة أو مجتمع بشري بغض النظر عن مدى تطور العلوم لديه أو مستوى حضارته أو عمرانه، فالأمانة والصدق والكرم والعفة والشجاعة والتضحية ومساعدة الضعفاء وحب العمل والمهن التي تحقق المكانة الاجتماعية أو التي تحط من قدر صاحبها، الملابس أشكالها وألوانها وطريقة تفصيلها ومقدار ما تغطيه من الجسم، الاكل انواعه وكيفية اكله باليد ام بادوات اخرى، الزواج وما يتعلق به، نوعية المساكن، اشكالها واحجامها وطريقة بنائها والمواد المستخدمة في بنائها وطريقة فرشها وتأسيسها. كل هذا وغيره يندرج تحت مسمى ثقافة المجتمع وتختلف الثقافة من مجتمع لاخر حسب المؤثرات التي تؤثر فيه وحسب اضطرار افراده للتعامل مع مجتمعات ذات ثقافات مختلفة، وقد تتغير الثقافة داخل المجتمع الواحد نفسه من فترة زمنية إلى أخرى، فقد تكون قيمة أخلاقية كالامانة مثلاً في مجتمع من المجتمعات قيمة عادية وشائعة بين افراده وقد يأتي وقت يفقد فيه نفس المجتمع هذه الصفة ونقول عندها ان ثقافة هذا المجتمع قد تغيرت، وقد يتصف مجتمع ما في وقت من الاوقات بلباس معين ثم يأتي زمان ويترك فيه افراد هذا المجتمع هذا اللباس ويلبسون لباساً غيره ونقول عندها ان ثقافة هذا المجتمع ايضا قد تغيرت، فكلمة ثقافة قد تطلق على مجموع صفات المجتمع وقد تطلق على احدى الصفات المكونة لثقافة نفس المجتمع. وثقافة المجتمع السوداني اليوم ليست كثقافته قبل خمسة عشرة عاماً وثقافته قبل خمسة عشرة عاماً ليست كثقافته قبل ثلاثين عاماً وهكذا، أي انه لا توجد ثقافة سودانية ثابتة فالتغيير قد شمل كل شيء، الطعام والشراب، السكن، الملابس، المعايير والقيم الاجتماعية، مفهوم الحياة الكريمة وغيرها، ولذلك فعندما نقول الثقافة السودانية فنحن ملزمون بتحديد الفترة الزمنية التي نتحدث عنها كأن نقول الثقافة السودانية في الستينيات او السبعينيات، فمثلا مقاييس الجمال اليوم قد تغيرت عن الامس، فقديماً كانت (الشلوخ) و(دق الشلوفة) من العادات الشائعة وكانت تعتبر من عمليات التجميل اما اليوم فهي تعتبر تشويهاً، وتغير لباس العروس التي كانت تلبس الملابس المحلية (التوب والفستان) يوم عرسها لتلبس ثوب الزفاف الابيض على الطريقة الغربية تماما، والعروس التي لم تكن تستشار في من سيتزوجها وربما لا تراه الا في ليلة عرسها اصبح رايها هو الاول والاخير واصبحت تحضر من يرغب فيها وتعرفه باهلها بدون الحاجة للاحساس بأدنى حرج، والتعدد الذي كان امرا عاديا اصبح جريمة اجتماعية، و(الجلابية) التي كانت اللباس الشعبي الاول للرجال وكان الناس ينظرون لمن يلبس السروال الافرنجي (البنطلون) نظرة استغراب ودهشة تراجعت وأصبح السروال الافرنجي هو الزي الشعبي الاول، والمغنين والمغنيات الذين كان يحتقرهم الناس ويسمونهم (الصيع) أصبحت برامجهم في التلفزيون من أعلى البرامج مشاهدة، وحتى في بناء المساكن وتأسيسها تغيرت النظرة لمفهوم المنزل المحترم، كما تغيرت نظرة الناس للتعليم الحديث واصبح يستهلك جزءا مقدرا من ميزانية الاسرة وفي زمان سابق لم يكن الاب يعرف في اي صف يدرس ابنه اما اليوم فدرجة الفرد العلمية من اهم المعايير التي يتم بها تقييم الشخص، والحقيقة ان التغييرات في ثقافة المجتمع السوداني (سلبا او ايجابا) اكبر من ان تحصى، ولا تستغرب ان الكثير من العادات مخالفة لتعاليم الاسلام فالثقافة السائدة دائماً أقوى من تعاليم الدين والمخالف للثقافة السائدة دائماً ما ينبذه المجتمع. وليست ثقافة المجتمع السوداني وحدها هي الخاضعة للتبديل والتغيير فحتى الثقافة الغربية القائدة للعالم اليوم نتيجة لحاجة الاخرين لما تملكه مجتمعاتها من علوم وصناعة هي نفسها في تبديل وتغيير مستمر فالغربي الذي كان يرى ان الاكل بالشوكة يعد اثما لان الله اعطاه الاصابع كشوكة طبيعية اصبح يرى ان الاكل باليدين عمل قبيح وغير محترم، والمجتمع الذي كانت المرأة فيه في وقت من الاوقات تغطي رأسها وتلبس الملابس الطويلة، ما زالت الملابس تضيق وتقصر فيه الى ان وصلت لمرحلة لباس البحر (البكيني) الذي افتخر مخترعه في الاربعينيات والذي لم يبداء في الانتشار الا في الستينيات بانه من صغره يمكن تمريره عبر خاتم، واستمر التغيير في اشكال الملابس وحجمها للرجال والنساء الي ان وصل المجتمع الغربي الي ان يري ان التعري الكامل ليس عيباً وانه امر صحي وانها عودة للطبيعة فاصبح من غير الملفت للانتباه ان تجد الناس في الكثير من المدن الغربية يسيرون عرايا كما ولدتهم امهاتهم وخاصة علي شواطئ البحار والانهار واحواض السباحة وتجد افراد الاسرة بكاملها داخل المنزل عراة وهم على قناعة بصحة ما يفعلون، كما انه هو نفس المجتمع الذي كانت تقوم فيه العائلة علي اساس الزواج المقدس في الكنيسة فاستغني اليوم معظم افراده عن ذلك الزواج واستبدلوه بالمساكنة بدون زواج مع علاقة زوجية كاملة بدون أي التزامات قانونية، واستمر التغيير في مفهوم العائلة الى ان اصبحت اليوم تتكون من شخصين من نفس الجنس واصبح زواج المثليين (ان يتزوج رجل برجل او امراة بامراة) شرعيا وقانونيا في معظم الدول الغربية وقد اعترفت به اول دولة اوروبية في العام 2001، ومن ناحية النظرة للاخر فهو نفس المجتمع الذي كان ينظر لاي اسود البشرة على انه عبد وليس من البشر اصبح السود اليوم فيه قادة يحظون بكامل الاحترام. ان الثقافة الاسلامية ولغتها العربية هي الثقافة الوحيدة الثابتة غير القابلة للتغيير بالرغم من حالة الانزواء التي تعاني منها في عالم اليوم فهي الوحيدة في العالم الدقيقة والكاملة التسجيل، فلن يأتي يوم ويتغير فيه مفهوم العائلة، ولن يأتي يوم يتم فيه تصنيف الناس على حسب الوانهم، كما انها تغطي جميع جوانب الحياة تغطية شاملة كاملة، ففيها كيف وماذا تاكل وتشرب، كيف تنام وتصحى، جسمك نظافته والعناية به، ملابسك طولها وشكلها ولونها، كيف تعامل الناس الصغار منهم والكبار الرجال والنساء، البيع والشراء، هذا مع تزويد الفرد بقيم نفسية واجتماعية رفيعة كالصدق، الامانة، الاحسان، الكرم، الايثار، الرفق، العدل، الحرص على الجماعة، العفة، حفظ اللسان، الوفاء، التواضع، العزة، الرحمة، الرضاء، والقناعة والشكر. والكثير الكثير مما لا يتسع المجال لاحصائه من التعاليم والقيم، ويسمى المجتمع مجتمعا مسلما او اسلامياً عندما يكون محباً وخاضعاً لتلك التعاليم والتوجيهات، وتسمى الحكومة بالاسلامية اذا كان برنامج عملها يقوم على تمكين تلك الثقافة الاسلامية الراقية، ويمكن تسمية الدولة بالاسلامية اذا كان الشعب والحكومة كلاهما اسلاميين. خلاصة القول انه لا توجد ثقافة (قيم وعادات واعراف وتقاليد) مسجلة اسمها الثقافة السودانية او الافريقية او العربية او غيرها بل توجد فقط ثقافة اسلامية تقترب منها المجتمعات وتبتعد بحسب المؤثرات السياسية والعالمية والاجتماعية المحيطة ولا يصح حصر تسمية مثقف لصالح فئة من الناس، فحتى من يعيشون في الكهوف هم أشخاص مثقفون (لهم عاداتهم وتقاليدهم وقيمهم)، وجميع الثقافات واللغات الصغيرة الى انقراض لأنها لن تستطيع أن تلبي طموحات أفرادها، ولذلك فعندما نقول الثقافة السودانية فنحن نقصد ثقافة العاصمة والمدن الموازية لها، اما مصطلح مثقفين الذي اطلقه بعض الجهال وردده الناس من بعدهم بدون وعي على اصحاب الثقافة الغربية (المتغيرة كغيرها) أو الحاصلين على درجات علمية من الغرب واتسع لاحقا ليشمل معظم البارزين في المجتمعات من غير السياسيين فهو تعبير في غير محله، اما الوزارات الموجودة في الدول الناطقة بالعربية وتسمى وزارات الثقافة والتي انتشرت بين تلك الدول نتيجة لعامل المحاكاة فهي عبارة عن مجرد ادارات لتشجيع ورعاية المغنين والممثلين والشعراء وكتاب القصص (لا اقصد الاساءة لاحد) وليس لها علاقة من قريب أو بعيد بتوجيه المجتمعات نحو وجهة مخطط لها مسبقاً، ولذلك فدائماً ما يكون برنامج الاحتفال بما يسمى عاصمة الثقافة العربية هو مجرد شعر ورقص وغناء.... ونواصل في موضوع الثقافة والهوية.