كن ذلك عند هجرة عامة الناس من العرب إلى السودان، أما عن هجرة العلماء فقد أوردها ود ضيف اللَّه في طبقاته وهو الكتاب الذي يعتبر مخطوطة نادرة وإن كان عبارة عن تراجم وسير ل «270» من الفقهاء والدارسين. ولكن الذي انفرد بالتحليل والنقد والتقديم هو البروفيسور يوسف فضل (مدير جامعة الخرطوم الأسبق) في مقدمته الفريدة لكتاب الطبقات نفسه، وللأسف، ورغم المعلومات المهمة والمفصلية عن تاريخ تلك الحقبة المهمة من التاريخ الديني في السودان إلا أنها مغيبة تماماً في مناهج التعليم كذلك لم تجد حظها في الإعلام. وقد اختار لها عنوان (بواكير الدعوة في الإسلام) والنقطة المفصلية التي انفرد بها عن باقي المؤرخين أنه أورد معلومة مفادها أن التيارات الدينية التي رفدت إلى السودان لم تكن واحدة كما ترسخ في أذهان السودانيين منذ زمان بعيد وأنه التيار الحجاز الصوفي وحده الذي نشر الإسلام في السودان، وإنما هي ثلاثة: أولها التيار العلمي الشرعي الوافد من الحجاز وهؤلاء حقيقة هم الذين أضاءوا ظلمات تلك الفترة بعلمهم ويشهد لهم بذلك محمد نور ضيف اللَّه صاحب الطبقات ولم يسبقهم أحد إلى هذا الفضل، ثم التيار الحجازي الذي قاده تاج الدين البهاري الصوفي المتسلل من العراق عبر الحجاز، وهو الذي قلب الموازين في الحياة الدينية السودانية، وهو المؤسس لدولة المجاذيب التي شغلت الناس عن الشرع واشتغلت بالمغيبات والأساطير واصطدمت بالتيار الشرعي القادم من مصر وامتلأت صفحات ود ضيف اللَّه (الطبقات) بالأساطير والأشياء المخالفة للشرع حتى لقد صورها المؤرخ المصري عبد المجيد عبد العزيز بقوله (هذه الأساطير تصلح أن تكون مادة للقصص الفني المسرحي) وهذا الاصطدام الذي وقع بين علماء الشرع والمتصوفة، أو علماء الحقيقة والشريعة، أو قل علماء الباطن والظاهر كما يسمونه قد شغل الناس عن طلب العلم، وكما يقول البروفيسور يوسف فضل مال السودانيون بطبعهم إلى خوارق العادات والمغيبات وفضلوها على العلوم الشرعية حتى ملوك الفرنج دانوا لهؤلاء الشيوخ وصاروا يتسابقون إلى كسبهم لجانبهم. وهناك تيار ثالث قدم من المغرب وهو خليط من العلوم الشرعية والتصوف. ويقول البروفيسور يوسف فضل إن أول من قدم إلى تلك الديار غلام اللَّه بن عائد اليمني في منتصف القرن الرابع عشر الميلادي وهو جد الركابية، ونشر أولاده وأحفاده العلم من بعده هم أولاد جابر ومنهم إبراهيم البولاد الذي ورد ذكره أيضاً في كتاب الطبقات والذي طلب العلم من مصر ثم عاد إلى السودان وقدم التلمساني من المغرب وتتلمذ عليه سوار الذهب، وهناك ابن قرم الكيماني والأغبش في بربر. ولكننا نشير إلى عالمين لهما الأثر الكبير في نشر العلم بالسودان وهما محمود العركي كما سبق ذكره ثم أرباب العقائد وقد تخصص في علم التوحيد والعقيدة وقد تتلمذ عليه خلق كثير.. ومن الكتب التي انتشرت والعلوم مثل علوم القرآن والفرائض ومبادئ الصرف والنحو وعلوم العربية والسير والأخبار، وأول الكتب مختصر خليل (الرسالة) وما تبعها من شروح وحواش أغلبها على المذهب المالكي الذي رسخ في السودان.. وهذا كله يدل على أن ذلك العصر وإن كان قد تفشى فيه الجهل فلم يكن أمياً بالمعنى الكامل للأمية بدليل أن الأشخاص الذين أرخ لهم ود ضيف اللَّه في طبقاته وعددهم «270» كان أغلبهم ما بين معلم ودارس علم. وفي أول صفحة من كتاب الطبقات يتحفنا ود ضيف اللَّه بمعلومة مهمة (ولم يشتهر في تلك البلاد مدرسة وعلم ولا قرآن ويقال إن الرجل يطلق زوجته ويتزوجها غيره في نهارها ومن غير عدة حتى قدم الشيخ محمود العركي من مصر وعلم الناس العدة وسكن البحر الأبيض). وبالطبع فهناك آخرون كثر مثل عبد اللَّه العركي والشيخ بانقا الضرير وحمد الترابي وغيرهم ممن اشتهر بالتدريس ووضعوا بصماتهم على خريطة التعليم الديني في السودان. نواصل