الرئيس البشير في المؤتمر الصحفي بالقاهرة مع مضيفه الرئيس المصري، أشار إلى الأثر الاقتصادي السلبي على بلاده بسبب انفصال جنوب السودان في عملية استفتائية ديمقراطية وبعيداً عن الإقصاء وفرض التبعية للسودان. وقال إن السودان فقد إثر الانفصال 80% من إيرادات النقد الاجنبي. واذا كان هذا يعني في الذهنية المصرية أن الخرطوم كان أفضل لها استمرار الوحدة بين الشمال والجنوب بغض النظر عن أي شيء آخر، فلا يمكن بعد ذلك أن تسخر وسائط الإعلام المصرية مما تعتبره تفريطاً في «الجنوب» وفي نفس الوقت سعياً لاسترداد حلايب وشلاتين بالطرق السلمية، بعيداً عن قاعدة «ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة». والكاريكاتير الذي يصوّر الرئيس صورة بشعة وهو يتحدّث عن إعادة حلايب وشلاتين وهو فاقد في نفس الوقت للجنوب الذي أصبح دولة مستقلة يبقى مقارنة فاسدة غير منطقية. فأهل الجنوب ليسوا شماليين مثلما أن أهل حلايب ليسوا مصريين. وحينما رفض الشعب السوداني في خمسينيات القرن الماضي الاتحاد مع مصر، وحتى قادة مشروع الاتحاد هذا مثل الأزهري قد تراجعوا، لم يقل العالم إن مصر فرطت في السودان الذي كان مقاطعة في ولاية مصر أيام الدولة العثمانية. وحينما احتلت إسرائيل سيناء لم يقل اليهود هناك حينها لا ينبغي للمصريين أن يسعوا لاستردادها ما دام انهم فرطوا في السودان. لقد حكم محمد علي باشا السودان من القاهرة، مثلما لاحقاً حكم الحاكم العام الانجليزي جنوب السودان من الخرطوم. وقد أعاد السودان استقلاله عن مصر بالثورة المهدية، وأعاد جنوب السودان استقلاله عن الشمال السوداني باتفاقية نيفاشا.. وهي ليست مثل اتفاقية مياه النيل لعام 1959م، بل هي اتفاقية معترف بها دولياً واقليمياً ومحلياً. إذن الكاريكاتير غبي جداً وينم عن جهل سياسي، وقيمته البذاءة التي يتسم بها الإعلام المصري. إن الكاريكاتير يخاطب الشعب المصري برسالة تقول إن الخرطوم فرطت في جنوب السودان، فلماذا تلهث وراء إعادة حلايب؟!.. وصاحب هذا الكاريكاتير الذي تربى تربية سياسية مصرية تجهيلية لن يكلف نفسه بالبحث عن إجابة عن السؤال المطروح الآن الذي يقول: «لماذا حركت القاهرة قواتها إلى حلايب عام 1958م وعام 1994م، وتراجعت في التاريخ الأول لكنها استمرت في بسط سيطرتها العسكرية عليها منذ التاريخ الثاني وحتى الآن؟» ومسألة أخرى في نفس اتجاه هذا السؤال تقول: «لماذا يتمسك السودان بحلايب وشلاتين لدرجة أنه فكر في اللجوء إلى التحكيم الدولي والأمم المتحدة حال لم يصل التحاور بين البلدين بشأنها إلى إعادتها إلى السيادة السودانية؟!» الآن بخلاف عام 1958م تعتمد الحكومة السودانية التحاور وإذا فشل تلجأ إلى المؤسسات الدولية، وفي عام 1958م أوكلت حكومة عبد الله خليل الأمر للقوات المسلحة. فكل مرحلة تاريخية اختلف التعامل فيها مع الأخرى. ومسألة ثالثة في نفس اتجاه ذات السؤال، هل يرى الناشطون الإعلاميون المصريون ومنهم صاحب الكاريكاتير هذا أن هناك دليلاً واحداً يؤكد تبعية حلايب لمصر؟! وكنت قد ذكرت هنا قبل زيارة البشير إلى مصر أن حلايب من كل النواحي التاريخية والجغرافية والإثنية والاجتماعية والثقافية والسياسية تتبع لإقليم البجا السوداني، أي الإقليم الشرقي أو جزء منه، فتاريخياً وقبل الهجرة العربية والاسلامية إلى مصر فإن حلايب بجاوية سودانية، وجغرافياً وسياسياً تقع في قطر السودان حسب الترسيم للحدود الذي ظلم السودان بتشتيت النوبيين بين دولتين، وكان المفترض أن يكون خط الحدود الذي يفصل بين البلدين جنوبأسوان مباشرة رغم أنها هي نفسها أرض نوبية سودانية. أما من الناحيتين الاجتماعية والثقافية، فإن هيئات وعادات وتقاليد سكان حلايب من البشاريين وهم السكان الأصليون، لا تشبه أي مجتمع سكاني مصري في المناطق المصرية الأخرى القديمة. ونرجو من صاحب الكاريكاتير أن يبحث عن إجابات لهذه المسائل، حتى لا يكون محل سخرية، وحتى لا تتسم رسوماته البذيئة بالغباء والجهل السياسي. وإذا كانت «الإنتباهة» قد حاولت قبل سنوات إقناع الشعب السوداني بأن فصل أو انفصال الجنوب عملية سياسية مستحقة، فالآن تحاول إقناع الشعب المصري بأن حلايب لا تقارن بحالة انفصال الجنوب.