وزارة الخارجية القطرية: نعرب عن قلقنا البالغ من زيادة التصعيد في محيط مدينة الفاشر    ياسر عبدالرحمن العطا: يجب مواجهة طموحات دول الشر والمرتزقة العرب في الشتات – شاهد الفيديو    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    المؤسس.. وقرار اكتشاف واستخراج الثروة المعدنية    حقائق كاشفة عن السلوك الإيراني!    البيان الختامي لملتقى البركل لتحالف حماية دارفور    الداخلية السودانية: سيذهب فريق مكون من المرور للنيجر لاستعادة هذه المسروقات    مدير شرطة ولاية النيل الأبيض يتفقد شرطة محلية كوستي والقسم الأوسط    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    تدرب على فترتين..المريخ يرفع من نسق تحضيراته بمعسكر الإسماعيلية    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي.. وعينه على الثلاثية    أرسنال يحسم الديربي بثلاثية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    السودان..توجيه للبرهان بشأن دول الجوار    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    تجارة المعاداة للسامية    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    دبابيس ودالشريف    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اندلاع السلام (نيفاشا) ..الحلقة الثالثة
نشر في الانتباهة يوم 29 - 11 - 2011

إنها لحقيقة مؤلمة إن إحلال السلام أكثر مشقة على الدوام من شن الحرب.. غير أن حصاد السلام بلا شك هو الأوفر عائداً.. لقد استغرقت اتفاقية السلام الشامل التي أنهت في عام 2005م الحرب الأهلية الثانية في السودان ثلاث سنوات تقريباً لتبلغ تمامها، وما كانت هذه الاتفاقية لتوقع على الإطلاق لو لا إخلاص مجموعة صغيرة من الأفراد، من السودان ومن المجتمع الدولي..
من بين أعضاء المجتمع الدولي تبرز هيلداف جونسون، وزيرة التنمية الدولية في النرويج وقتها، ثانية المدير التنفيذي لليونسيف الآن.. بجهودها التي لم تكل لجمع اللاعبين الكبار.
ويمثل هذا الكتاب رواية هيلدا من الداخل حول كيف تفاوض طرفا أطول حرب أهلية في إفريقيا، أي الحركة/ الجيش الشعبي لتحرير السودان وحزب المؤتمر الوطني لإنهاء عشرين عاماً من سفك الدماء. وتأخذنا هيلدا، مستفيدة من قدرتها الفريدة على التواصل مع قائد الحركة الشعبية الراحل جون قرنق وعلي عثمان محمد طه النائب الأول للرئيس السوداني في رحلة أخّاذة تبدأ منذ مستهل المحادثات في نيروبي إلى لحظة توقيع الاتفاقية ذات المائتين وستين صفحة في نيفاشا بعد ستة عشر شهراً. وهذه الرحلة غنية بالنظر العميق في الديناميات السياسية لشمال وجنوب السودان، بقدر قوة استخلاصاتها حول آليات التفاوض والحاجة لارتباط قوي من قبل المجتمع الدولي.
النزاع السوداني الشمالي الجنوبي كان لعقدين تقريباً واحداً من تلك النزاعات المعقدة، وقد بدا عصياً على الحل ما لم تُغيّر بيئة السياسات الأوسع على نحو درامي، وكما تشير هيلدا فقد أدت أحداث 11 سبتمبر المأساوية إلى هذا التغيير ووفرت الحافز لاتفاقية السلام الشامل.. وبدون الشعور الملح الذي خلقته صور اصطدام الطائرات وانهيار البرجين، لم يكن من المرجح أن توافق النخبة الحاكمة في الخرطوم على التسويات الضرورية.. لكن وبقدر ما أسعفت الديناميات الخارجية المفاوضات. تساعدنا حتمية تلك المفاوضات على إدراك حجم الانسداد في السودان.. لقد كشف التطبيق المتباطئ والمثقل بالمشكلات للاتفاقية عبر السنوات الخمس الماضية أن مأزق الانسداد سيظل قائماً، وقد يتفاقم مع اقتراب الاستفتاء الحاسم حول مستقبل جنوب السودان.
إذن فالحاجة إلى إحلال السلام في السودان هي أكبر من أي وقت، وهذا الكتاب لا غنى عنه لأي شخص رصد وتابع ذلك الجهد الخارق وأراد أن يجيب عن السؤال الصعب وهو: كيف تحقق ذلك السلام.
كوفي أنان، الأمين العام للأمم المتحدة 1997م 2006م
الأسوأ كانت لدي مشكلة في فهمه، كانت لغته الإنجليزية جيدة، لكن رسالته كان مشوشة، جلست أتساءل ما إذا كان هذا الرجل المشهور بذكائه قد جن.. أم أن الأمر كان مجرد مراوغة ليحول دوني والكلام، وكوزيرة تتعامل مع واجباتها بجدية لم أرغب في مغادرة المكان قبل أن أوصل رسالتي نيابة عن حكومتي.
عندما شارف الوقت المخصّص للاجتماع على الانتهاء قرّرت مقاطعته، بأقصى ما أستطيع من أدب، لأطرح أكثر ثلاث نقاط أهمية عندي.. لم يكن رد الترابي مقنعاً البتة، وعندما لم يبدِ أي شيء على اكتفائه من الكلام نظرت إلى وفدي، وإلى ساعتي وفهم الترابي الأمر. شكرنا سعادته بأدب لمنحنا الكثير من وقته.
لكننا هززنا رؤوسنا ونحن نغادر المنزل متعجبين من سطوع نجم مثل هذا الرجل، كان واضحاً أنه شديد الذكاء وكنا نعرف قدرته على الإبحار في مياه السياسة المخادعة، هل فاتنا شيء؟ وعندما أجبر الترابي بعد سنة من ذلك الاجتماع الغريب على مغادرة الحزب الحاكم لم أندهش لكن الأكثر اندهاشاً هو بقاؤه حتى اليوم شخصية رئيسية في السياسة السودانية، سواء كان في الظل رهناً للاعتقال المنزلي، أو خارج محبسه، مهما كان صغر موقعه فهو قوة يحسب حسابها.
لم ألتقِ بعلي عثمان محمد طه في هذه الرحلة، ولا الرئيس البشير، وهي ثغرة سأعوض عنها خلال زياراتي العديدة إلى الخرطوم مستقبلاً، لم أكن أعرف وقتها، لكن علمت لاحقاً أن العلاقات بين طه والترابي كانت مريرة لزمن طويل، بالنسبة لي كانت تلك علامة إيجابية، أخبرني علي عثمان لاحقاً أن مفاوضات السلام مع الجنوب كانت ستكون مستحيلة إذا كان الترابي في موقع السلطة وبالفعل، عندما أعادت قمة الإيقاد في 1997م إعلان مبادئها بما في ذلك الحق في تقرير المصير، وهو نص فاوض عليه طه بوصفه وزيراً للخارجية والتزم به، أصبح هدفاً لغضب الترابي، وفقط بعد خروج الترابي من الصورة أصبح ممكناً تحقيق تقدم.
اُنتخب طه لقيادة الحركة الإسلامية في السودان عقب إطاحة الترابي في 1999م كان الترابي مسلماً ملتزماً ومحافظاً انتهت هويته بقوة عند الإسلام السني، وكان طه منذ أيام دراسته الجامعية نشطاً بين الإسلاميين وبعد أن حصل على درجة في القانون وبدأ ممارسة مهنة المحاماة، عيّن قاضياً، ثم دخل السياسة كعضو برلمان عن الجبهة الإسلامية القومية في الثمانينيات كان طه عضواً في الحلقة الداخلية لتنظيم الإخوان المسلمين الذي وقف وراء الانقلاب الذي أطاح حكومة الصادق المهدي في 1989م. وعلى الرغم من أن الانقلاب قاده البشير «الذي سيصبح رئيساً» ظهر حسن الترابي والفريق الزبير محمد صالح وطه كقادة للجبهة الإسلامية القومية وظلوا كذلك لسنوات مع اكتمال سيطرة الجبهة الإسلامية القومية على مؤسسات الحكم، بما في ذلك الجيش، بدأت سياسة الأسلمة، كان قانون الشريعة قد فرض في 1983م في عهد الرئيس نميري عندما كان الترابي نائباً عاماً، لكن مجلس قيادة الثورة التابع للجبهة الإسلامية القومية ذهب أبعد من ذلك، فنسّق طه، بوصفه وزيراً للتنمية الاجتماعية أنشطة عدد من الوزارات «التعليم والصحة والشؤون الاجتماعية» سعياً وراء الأجندة الإسلامية المعروفة ب «المشروع الحضاري» أصبح علي عثمان وزيراً للشؤون الخارجية واُعتبر على نطاق واسع الشخصية القائدة في الحكومة، ولم تحد الوظيفة المحدودة من اهتمامات طه، فقد أمسك بالخيوط من وراء ستار، غالباً بهدوء وبدون أن يُرى.
خلف طه في 1998م الزبير محمد صالح، الذي قتل في تحطم طائرة، نائباً للرئيس، كان صالح رابطاً مهمًا بين الجيش والجبهة الإسلامية القومية، وتزعم العديد من المصادر إن طه لم يكن أبداً قريباً من الجيش على النحو ذاته، ومن ناحية أخرى انتمى طه إلى قوات الدفاع الشعبي غير النظامية، وحتى انقسام الجبهة الإسلامية القومية في التسعينيات كانت هذه المليشيات مرتبطة بحسن الترابي وعلي عثمان طه.
على المستوى الشخصي كان علي عثمان طه انسحابياً نوعاً ما، كان مصمماً عندما يريد أن ينجز شيئًا ما وكان مخططاً سياسياً متأنياً وذا عزم، لم يقم بمجازفات ولم يكن في عجلة من أمره أبداً، وفضّل أن يمسك بالخيوط ويقود من الخلف، علي عثمان، المتأمل بطبيعته مستمع جيد، يتيح للناس المجال مفضِّلاً أن يستمع لهم ويقيِّمهم قبل أن ينطق بشيء، وكمثقف رأى الأشياء من زوايا مختلفة وقدر ما هو ممكن وما هو غير ذلك، كان براغماتياً، نادراً ما رفع طه صوته، ونادراً ما أظهر ضيقاً، كان صبوراً وبانياً للإجماع، يتشاور على نطاق واسع قبل أن يتخذ القرارات. وما يثير الاهتمام أن طه قد قاد أجنحة الشباب في الحزب والحركة، ولا يزال يحتفظ بمكانة قوية بين الشباب.
والثقة مع طه، مثلما هي مع قرنق، تبنى ببطء عبر الزمن، في نهاية المطاف أتيح لي أن أعرفه جيداً من خلال الكثير من المكالمات الهاتفية الثنائية، لم يكن طه يتردد في أن يعبِّر عن التقدير حينما يكون مستَحقّاً، أو خيبة الأمل والإحباط عندما يصيبه القلق من مسار المفاوضات، وقد قدرت انفتاحه لكنه يظل شخصاً ذي خصوصية نوعاً ما.. وعلى الرغم من أنه قد يحدثني عن أحداث عائلية مهمة «متزوج وله خمسة أبناء وبنات»، وقد يتصل بي، عندما تعمقت معرفتنا ببعضنا، في الفترات بين الجلسات لا لشيء سوى تجاذب أطراف الحديث ويحيطني بالتطوّرات، ظلت نقاشاتنا تدور عادة حول المفاوضات.
ومثل جون قرنق فلعلي عثمان رؤية حول السودان، وفي حالته كانت تلك الرؤية هي جدول الأعمال الإسلامي الخاص بالجبهة الإسلامية القومية.. كان طه يتحدّث عن هذه الرؤية بشغف، وبالنظر إلى تنوع السودان فإن السؤال الواضح الذي يواجهه هو وغيره كان ما إذا كانت الرؤية الإسلامية مستدامة للبلاد ككل، أم كانت هناك ضرورة لمقاربة أكثر براغماتية، وأياً ما كان المدى الذي نوقش به هذا السؤال بجدية داخل قيادة الحكومة أو حزب المؤتمر الوطني فالواضح أن طه قد اتخذ خلال محادثات السلام قراراً واعياً بالتحرك إلى المياه غير المستكشفة، مدركاً أن نوعاً من التسوية المساومة حول هذه المسألة الأساسية سيكون ضرورياً، وقد كان هذا قراراً شجاعاً، كان بمقدور النائب الأول للرئيس أن يقرأ المشهد السياسي والخارجي جيداً، وكان يدرك ما هو على المحك لكن في اللحظات الحاسمة في المفاوضات كانت هناك حدود للتسويات التي كان مستعداً لها، خاصة في القضايا المتعلقة بالدين، كان طه يجعل المرء يفهم عندما يمس خطاً أحمر.. كان هناك توتر لا يمكن للمرء أن ينساه. كان طه يؤمن في أعماقه بأيدولوجيته السياسية بإعزاز.
وبطريقة تميّز السياسة السودانية كان بين طه وقرنق الكثير من الأمور المشتركة في مطلع السبعينيات خرجت إضرابات الطلاب عن السيطرة أجرت السلطات تحقيقاً وفصلت بعض الطلاب الذين اُعتبروا متآمرين وعندما استمر الشغب وجدت تحريات أخرى أن منظم كل هذه الحركة خريج جديد هو علي عثمان طه الذي لعب نفس الدور عندما كان رئيساً لاتحاد الطلاب في نهاية الستينيات.. وفي ذلك الوقت كان هناك طالب آخر هو كول دينق قد انضم لحركات الطلاب. كان جون قرنق وكول نشطين بالمثل عندما تحرك طلاب مدرسة رومبيك الثانوية احتجاجاً على سياسات نظام نميري. وقد أكد علي عثمان على هذه الصفة المشتركة.
تحدث الدكتور جون وأنا عن هذا لكلينا ماضٍ متمرد تمرد ضد المؤسسات في ذلك الوقت بشكل أو بآخر، كما ناقشنا أيضاً ما إذا كان حمل السلاح أمراً صائباً أم خاطئاً من وجهة النظر الأخلاقية وفي ضوء الأحداث في بلادنا في السبعينيات وقد أدركنا أن كلينا قد لجأ إلى السلاح تأييداً لمطالب سياسية، إذن فقد كانت هناك الكثير من أوجه الشبه بيننا.
وعلى الرغم من أن الاختلافات بين القائدين كانت واضحة، فإن قرنق وطه كانا متشابهين في العديد من الجوانب. كلاهما مثقف ومفكِّر وإستراتيجي.
وبمعزل عن خلفيتهما الأكاديمية، فإن ما أبهرني هو حدّة ذهنيهما والموهبة التكتيكية التي امتلكاها، لقد فوجئ طه واعترف بالطبيعة الحقيقية لرصيفه: لم يكن قرنق أبداً كما توقعه.
ما كان تجربة جديدة لكليهما أنهما انتهيا كبراغماتيين، مظهرين قدرة غير متوقّعة على المساومة، لقد سبقت العديد من الأحداث «لقاءهما»، من أكثر تلك الأحداث أهمية التطورات في الولايات المتحدة وداخل السودان.
11 سبتمبر والحركة/ الجيش الشعبي لتحرير السودان
لقد آمن قادة الحركة/ الجيش الشعبي أن هجمات 11 سبتمبر ستعجل ببروز خط أمريكي أكثر تشدداً تجاه حكومة الخرطوم، لكن أملهم خاب في هذه النقطة كما رأينا، لكن الحركة/ الجيش الشعبي كانت أقوى وفي وضع أفضل مما كانت عليه في مطلع التسعينيات، ولعلها من ثم كانت تفاوض من موقع قوة، وكان واضحاً من الإشارات التي أطلقها الأمريكيون، والإشارات المشابهة من لاعبين دوليين رئيسيين آخرين، أنه سيكون هنالك دفع من أجل جهد تفاوضي جدي.
وكان في مصلحة الحركة أن تبقى أي محادثات بشكل صارم داخل الإيقاد، التي كان يقود جهودها بشأن السودان الرئيس الكيني دانيال أراب موي الذي كان قريباً من الجنوبيين وحامياً بالأمر الواقع لجون قرنق في نيروبي، كما سيهزم التقدم في مسار الإيقاد المبادرة الليبية المصرية، وقد بدأ قرنق يعمل بمنهجية تجاه هذه الغاية.
حاول الرئيس النيجيري أوباسانجو التوسط في مطلع التسعينيات ولأسباب عدة فشلت ما عُرفت بمحادثات أبوجا «1» وأبوجا «2» والآن يحاول الرجل مرة أخرى، وقد عمل أوباسانجو منذ مطلع خريف 2001م على خطة لتوحيد القوى السياسية الجنوبية، وقد تضمنت إستراتيجيته مصالحة من مرحلتين. عمدت المرحلة الأولى إلى تحقيق إجماع سياسي من خلال إجماع القوى الجنوبية في أبوجا، وكانت المرحلة الثانية ستشمل مؤتمراً وطنياً لكل القوى السياسية في البلاد، لكن كانت الحركة/ الجيش الشعبي كانت تخشى أن يفلت زمام الأمر من يدها، فحاولت العثور على سبيل لتأجيل المؤتمر، ومن ناحيتها لم يكن للحكومة السودانية مصلحة في تعزيز جبهة جنوبية موحدة. وعندما اتُّخذ قرار بدمج المرحلتين، ودُعي لمؤتمر لعموم السودان في مطلع نوفمبر 2001م، كان الوقت قصيراً جداً للتحضير للمؤتمر، فدعت الخرطوم إلى تأجيله ولم ينعقد الاجتماع على الإطلاق وأهملت جهود أوباسانجو، حاول مرة أخرى بعد سنة من ذلك أن يسهل اجتماعاً بين قرنق وطه، وكانت تلك المحاولة فاشلة أيضاً، هذه المرة بسبب ممانعة رئيس الحركة الشعبية عندما كان قرنق في أبوجا من أجل المشاورات رتب اجتماعًا مع بونا ملوال القائد الجنوبي العتيد والخصم اللاحق لدكتور جون فقد اصطدما بعضهما ببعض بسبب مشروع لافتداء حرية الجنوبيين المسترقين، وعاب بونا ملوال الذي كان انفصالياً على قرنق دفاعه غير الكافي عن حق تقرير المصير، في حين كان ينظر لبونا نفسه بوصفه «يغذي انقسامات الجنوبيين»، لم يبلغ قرنق بالاجتماع، لكن لم يكن بإمكانه تفاديه، اتفق الطرفان على السعي للمصالحة من خلال لجنة من كبار السن في لندن والابتعاد عن الاتهامات العلنية، لكن هذا الاتفاق غير المتوازن سرعان ما انهار.
لكن الحركة/ الجيش الشعبي كان جاداً فيما يتعلق بعملية توحيده الخاصة، أجريت المفاوضات ووقعت سلسلة من الاتفاقيات، وبهذه الطريقة تم الوصول إلى معارضة أكثر اتحاداً، فقوي موقف الحركة إزاء حكومة الخرطوم ومن بين الاتفاقيات الأكثر أهمية التفاهم مع الجبهة الديمقراطية لشعب السودان برئاسة رياك مشار، وقد أنهى هذا التفاهم الذي وُقع في يناير 2002م انقساماً طويلاً ومدمراً وأعاد قادة وعسكريين وسياسيين كبارًا من النوير إلى الحركة/ الجيش الشعبي لتحرير السودان وكانت هذه العودة مهمة على وجه الخصوص بسبب الدور الذي لعبته الجبهة الديمقراطية لشعب السودان في مناطق إنتاج النفط، حيث أصبح الآن بإمكان الجيش الشعبي أن يضرب أهدافاً ذات أهمية إستراتيجية وعقدت اتفاقيات أخرى مع قادة معادين آخرين، وقد اعتبرت اتفاقيات الحركة/ الجيش الشعبي لتحرير السودان الجبهة الديمقراطية لشعب السودان، على نطاق واسع بوصفها تقوية للحق في تقرير المصير، وكان واضحاً أن رياك مشار لن يكن بإمكانه في القريب أن ينصح بتجربته في ظل اتفاقية الخرطوم للسلام، أبريل 1997م عندما وقع سلاماً منفصلاً وواجه إزدراء واسعاً لأنه حصل على القليل بالمقابل.
كذلك اتصلت الحركة/ الجيش الشعبي بالمعارضة الشمالية، وتفاوضت على اتفاقات سياسية مع كل من حزب الأمة بقيادة رئيس الوزراء السابق الصادق المهدي وحزب المؤتمر الشعبي بقيادة الترابي، وكان الأكثر أهمية من الناحية العسكرية هو الشراكة الإستراتيجية التي تطورت مع قوات التحالف السوداني، المجموعة المعارضة المسلحة الأكثر أهمية في الشمال المسلم، وقد أكد دمج الجيش الشعبي لقوات التحالف تحت قيادة قرنق على جدول أعمال «السودان الجديد» وقد وقعت الاتفاقية مع قوات التحالف مباشرة قبل تحرك قرنق في جولة دولية زار خلالها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في مارس 2002م وتماماً مثلما كانت تريد الحكومة السودانية شراكة حصرية مع الحركة/ الجيش الشعبي أرادت الحركة أن تعزز موقفها من كسب معارضي النظام إلى صفها وبناء صداقات في العواصم الأجنبية.
لعبت مشاركة المجتمع الدولي في الضغط من أجل محادثات سلام جدية دوراً هاماً في حسابات الحركة/ الجيش الشعبي وكان من أبرز لاعبي المجتمع الدولي الولايات المتحدة والنرويج، واللتين انضمت إليهما المملكة المتحدة فيما عرفت بالترويكا، حاول قرنق أن يضمن دعمهم، فالتقى في الولايات المتحدة بوزير الخارجية الجنرال باول والمبعوث الخاص جون «جاك» دانفورث، ومسؤولين آخرين، وفيما يتعلق بهذه الاجتماعات فقد صرح قرنق علناً أنه يرى الآن «فرصة» لإنهاء النزاع السوداني، كما كانت اللقاءات في لندن مع وزيرة التنمية الدولية كلير شورت والآن قولتي، الذي كان قد أصبح وقتها المبعوث الخاص للمملكة المتحدة في السودان، ناجحة أيضاً، وقد ورد على لسان قولتي عقب هذه الاجتماعات أنه كان «سعيداً بآفاق السلام في السودان» كذلك عقد قرنق الكثير من الاجتماعات مع السودانيين في الشتات خلال هذه الرحلات الخارجية، بما في ذلك تعرضه لانتقادات طويلة لقيادته، وقد خرجت الحركة من هذه المبادرات أقوى وأكثر ثقة بنفسها، وكما قال دكتور جون وقتها فإن الحركة الشعبية كانت تحتاج «أن تجر الخرطوم إلى حافة السلام».
إن قوة القاعدة المحلية تجعل الطرف المفاوض عادة أكثر رغبة للتسوية، وقد كانت تلك هي الحالة في السودان حيث مر كل من الطرفين عبر عملية تمتين أو توحيد حلت التوترات الداخلية، وقد كفل هذا أن يكون كلاهما أكثر تماسكاً وثقة بموقفه، ومن ثم أكثر استعداداً للتعامل مع عملية تفاوض بهذا الحجم، وما لا يقل أهمية أن الطرفين شعرا أنهما ضعيفان عسكرياً أو «في موقف دفاعي» لقد وضعت التطورات في نهاية التسعينيات الأساس لجهد جاد لصنع السلام في السودان لكن كانت 11 سبتمبر هي العامل الأكثر حسماً.
الفصل الأول
الترويكا
كلفت منظمة الوحدة الإفريقية وهيئة بلدان القرن الإفريقي «الإيقاد» كينيا بالتوسط لمحادثات سلام بين الحكومة السودانية والحركة/ الجيش الشعبي لتحرير السودان، ومنذ ذلك الحين لم يتحقق سوى القليل من التقدم، كان هيكل المفاوضات شديد الضعف، ولم يتعامل أي من الجانبين مع الاجتماعات المتكررة بجدية، والإنجاز الوحيد خلال تلك الفترة كان هو الاتفاقية الإطارية للمحادثات أي إعلان المبادئ الذي جرى التفاوض عليه في 1994م وتم الاتفاق عليه أخيراً في 1997م وسيكون هذا الاتفاق هو الأساس لكل المفاوضات اللاحقة، وقد ألزم الاتفاق الطرفين بحق تقرير المصير لشعب الجنوب من خلال استفتاء حول وضعهم المستقبلي، وقد خرج منبر شركاء الإيقاد من مجموعة «أصدقاء السودان» التي كونتها النرويج وهولندا في منتصف التسعينيات ورأسها يان برونك وزير التعاون الدولي وكان أحد أبرز مساهمات هذه المجموعة هي الدعم القوي والمستمر للإيقاد وإعلان المبادئ وقد استلمت رئاسة المجموعة من برونك في 1988م.
خشيت مصر بمصالحها الإستراتيجية في مياه النيل، من أن تؤدي ممارسة حق تقرير المصير إلى تقسيم السودان وقد جرت محاولات لخلق بديل لإعلان المبادئ بوصفه أساساً للمفاوضات وقد كانت ما عُرفت بالمبادرة الليبية المصرية المشتركة واحدة من تلك المحاولات التي رمت على ما يبدو إلى تقويض جهود الإيقاد وقد شملت نقاطها التسع الكثير من مبادئ الإيقاد لكن اللافت أنها استبعدت الحق في تقرير المصير وقد هدفت المبادرة إلى إشراك الحركة/ الجيش الشعبي والتجمع الوطني وآخرين في مؤتمر للسلام في القاهرة.
خطط لعقد المؤتمر في منتصف سبتمبر 2001م وقد وافقت الحكومة السودانية، التي لم يكن لديها ما تخسره، على الحضور، لكن الحركة/ الجيش الشعبي رأت في المصريين والليبيين مخربين محتملين لمبادرة الإيقاد فوافق جون قرنق على المشاركة فقط إرضاء لرعاة المؤتمر، لكن المجلس القيادي للحركة/ الجيش الشعبي رفض المصادقة على مشاركة قرنق، خوفاً من أن يعني ذلك ضمناً الاستعداد للمساومة في الحق في تقرير المصير لكن المؤتمر لم ينعقد إطلاقاً وسيتم إحياء المبادرة عندما وجدت ليبيا ومصر أن الفرصة سانحة لمحاولة إزاحة جهود الإيقاد جانباً، ومن جانبها فقد أوضحت الولايات المتحدة الأمريكية للمصريين مبكراً تأييدها لمبادئ الإيقاد وهو الموقف الذي أكده دانفورث للرئيس مبارك، وطبقاً للمسؤولين الأمريكيين فقد بدا أن المصريين قد قبلوا هذا الموقف وسيحيطهم الأمريكيون علماً بالتطورات بعد كل زيارة للمنطقة ومع ذلك ففي ربيع 2002م انزعج المصريون من عرض قُدِّم لهم لمنحهم وضعية المراقب في الجولة الأولى لمشاوكوس، لكن المصريين نأوا بأنفسهم بعيداً، وهو قرار أجزم أنهم ندموا عليه بعد ذلك.
لم تتوافق خطة مصر مع الحكومة الكينية أو الإيقاد ورؤساء دولها الأعضاء فواصلت مصر ضغوطها من أجل إشراكها في المجموعة الدولية المسماة لجنة السودان في منبر أصدقاء الإيقاد التي تدعم المفاوضات وكان عليَّ كرئيسة مشاركة لمجموعة التنسيق هذه أن أتعامل ليس مع الأجندة المصرية فحسب بل مع أجندة الدول الأخرى الأعضاء في المنبر قد أصبح واضحاً مع حلول أواخر تسعينيات القرن العشرين أن المنبر كان أثقل من أن يلعب دوراً نشطاً وداعماً، وقد حاولنا مع نائب وزير الخارجية الإيطالي، و«نواة» من الأمريكيين والبريطانيين والهولنديين والكنديين إحياء مفاوضات السلام، فأرسلت البعثات المشتركة إلى السودان وعقدت اجتماعات لمنبر الشركاء بما في ذلك اجتماع عُقد في أوسلو في مارس 1999م بحضور عشرين بلداً لكن بلا طائل وكان القليل قد تحقق عندما غادرت منصبي في مارس 2000م بعد الكثير من جولات التفاوض وقد جاءت فكرة تأسيس «الترويكا» اعترافاً بكل ما تقدم عدت لمنصبي في أكتوبر 2001م وكان واضحاً أن الترويكا كما أصبحت تسمى الشراكة التي كونتها النرويج مع البريطانيين والولايات المتحدة من أجل استئناف محادثات سلام السودان أمامها فرصة هائلة لدفع المحادثات قدماً، وعندما التقى منبر الشركاء في لندن في أكتوبر 2000م، ألن قولتي مدير قسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في وزارة الخارجية البريطانية وقتها، وجون برندر غاست من وزارة الخارجية الأمريكية، وهاتر يوكوب فرايدنلوند من وزارة الخارجية النرويجية، بدأوا التفكير في تنسيق غير رسمي، وفي صيف 2001م بعد استكمال انتقال الإدارة الأمريكية الجديدة، كان واضحاً أن فريق بوش مهتم بعلاقة أكثر رسمية، تكثف التعاون مع اجتماع عقد على المستوى الرسمي في لندن في 24 أكتوبر، حيث انضم الأمريكيان روبرت أوكلي وشارلي سنايدر إلى قولتي وفرايدنلوند.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.