قبل عدة سنوات قدّمتُ محاضرة بجامع حي المطار بمدينة عطبرة كان موضوعها في الرد على ما نشره في تلك الأيام د. حسن الترابي مما تعوّد تكراره بين الحين والآخر من آراء، وجزء كبير من مادة تلك المحاضرة هو مما نشرته في مقالات في فترات متباعدة، كما أن بعض تلك المادة سجّلتُه في مادة صوتية نُشِرَت على الشبكة بعنوان: «الردود الشرعية على الآراء الترابية»، وبعد أن انتهت المحاضرة قُدِّمت الأسئلة والتي كان من بينها السؤال التالي: «هل الترابي وهو بهذه المخالفات وبعد اطلاعنا على كلامه في بعض الأنبياء ومصادر التشريع وغير ذلك .. هل يكون كافراً أم مازال مسلماً؟». قرئ السؤال وجميع من بالمسجد ينتظر الجواب بعد أن تم عرض تلك المخالفات المتنوعة وعرضت عليهم الأقوال التي صدرت من د. الترابي في بعض كتبه ومحاضراته ولقاءاته .. فقلتُ: هذا سؤال مهم جداً، وإجابتي عليه أن يتوجه الأخ السائل إلى الجهات المختصة في القضاء ليرفع دعوى يؤيدها بهذه الأقوال، وبعد ذلك تتم محاكمة لصاحب هذه الآراء، يؤتى به وينظر في تحقق شروط التكفير وانتفاء موانعه، وإن الحكم بتوفر الشروط ووجودها وانتفاء الموانع وانتفائها حتى يخرج الحكم هو أمر بحاجة إلى جهة قضائية تتولى مهمة معرفة ذلك والحكم به، فإن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وتمام التصوّر يكون بجمع البيّنات في إثبات هذا الحكم الذي ينقل به مسلم ثبت إسلامه بيقين إلى أمر طارئ وحادث وهو الكفر والخروج من ملة الإسلام، وبيّنت في الإجابة المفصّلة أن دور العلماء والدعاة والخطباء في المساجد سواء في الخُطَب أو المحاضرات والندوات يجب أن يكون في بيان الحق والصواب والدلالة عليه بأدلته، وبيان الباطل والخطأ والتحذير منه، ومن ذلك أن يبين أن هذا القول أو الفعل «كفر» وأن هذا القول أو الفعل «شرك» فيحكم على القول أو الفعل بالأدلة التي تثبت ذلك، ولا يحكم على القائل نفسه أو الفاعل ذاته بأنه «كافر» أو «مشرك» لأنه لم يستكمل أدوات هذا الحكم. هذا كان جوابي لذلك السؤال الذي افترضتُ من باب إحسان الظن في مقدمه أنه يكون حَسُن النيّة يريد معرفة الجواب الصحيح أو التنبيه لأتباع الترابي الذين كان بعضهم ممن يستمع إلى المحاضرة، وإن «مضمون» هذه الإجابة هو مما يجب أن يقرر ويؤكّد عليه ويبيّن، فالقضية لا تخضع للأهواء أو العصبيّات أو المكايدات وإنّما هي قاعدة شرعية معلومة عند علماء المسلمين. وقد تناولت بعض الصحف في الأيام الماضية الأحكام التي قيل أن بعض أئمة المساجد أطلقوها وأصدروها على د. الترابي في خطبة الجمعة في الأسبوع الماضي، وقد قيل أن منهم من أطلق عليه حكم التكفير أو أن بعضهم قد أباح دمه، واطلعت على ما نشره بعض القائمين على حزب المؤتمر الشعبي في سبيل نصرتهم لشيخهم وتضامنهم معه، فاطلعت على تهديدهم لمن أشير إليهم من خطباء تلك المساجد. وكم كنت أتمنى أن تكون لهم ردّة فعل قائمة على الشرع، فوجب بيان القول الحق في قضية الحكم على «الأشخاص المعينين» بهذه المناسبة، والمسألة معلومة في كتب أهل العلم، فإن الحكم بإطلاق حكم التكفير على الشخص المعين من الأمور الخطيرة التي ينبغي أن تربط بالجهات العدليّة المختصة والتي تستعين بعلماء راسخين لتكون على بينة في ثبوت ما يكفّر به وفي تحقيق المناط في الشخص المعين وفي التحقق من عدم وجود مانع كالإكراه أو الجنون أو الجهل أو التأويل أو الخطأ وغيرها من موانع التكفير. وعلى أتباع الترابي ألا ينصروه في الباطل فإن المسائل التي خالف فيها، فإن ضلالات الترابي سارت بأخبارها الركبان وردّ عليها علماء من داخل السودان ومن خارجه، وهي ليست ذات قيمة أو إسهام في الإضلال في مجتمعنا لأن الناس قد تعوّدوا على ترديده لها، كما أن المجتمع قد أخذ حصانة منها، فلم نسمع بأن نساء مسلمات تزوجن من نصارى أو يهود بناءً على فتوى الترابي، كما لم نسمع بأن امرأة تقدمت في إمامة الرجال في الصلاة، لم نسمع بذلك لا في مدينة أو قرية أو حتى نادي لهو !! كما لم يكن لقوله أن الإجماع يجب أن يتحول من إجماع الفقهاء إلى إجماع الشعب، وأن يرد العلماء الحق الذي سلبوه من عامة الشعب، لم نسمع أن لهذا القول رواج رغم أن د. الترابي طبعه في كتاب ونشره منذ عقود من الزمان!! وقل في البقية مثل ذلك، فهي آراء ضالة ليست لها تأثير. وعلى من يقوم بإصدار أحكام التكفير من خلال المنابر وساحات المساجد أن يعلم أن باب «التكفير» من الأبواب التي زلت فيها أقدام كثيرة، وعليه العناية بأصول أهل السنة والجماعة في هذا الباب الخطير، فإن الشخص قد يقع فيما يكون فعله كفراً لكنه لا يحكم بتكفيره كما ذكرت في صدر هذا المقال، يقول الشيخ ابن عثيمين: «وبهذا يعلم أن المقالة أو الفعلة قد تكون كفراً أو فسقاً ولا يلزم من ذلك أن يكون القائم بها كافراً أو فاسقاً، إما لانتفاء شرط التكفير أو التفسيق، أو وجود مانع شرعي يمنع منه». وإن قضايا التكفير لا يحق لغير العلماء الراسخين أن يدخلوا فيها، فكما أنه يشترط في من يفتي الناس في الأحكام الشرعية شروط معتبرة من ناحية علمه وأهليته وتحققه بشروط الإفتاء والاجتهاد، فكذلك في مسألة الحكم بالتكفير، فإنه لا يتكلم فيها إلا من رسخت أقدامهم في العلم، فلا يجوز أن يتكلم فيه من ليس عنده علم ومعرفة وبصيرة ولا يحكم بالكفر إلا على من كفره الله ورسوله لارتكابه «ناقضاً من نواقض الإسلام» المجمع عليها بين أهل العلم ومن ثم يجب على المسلم أن يتعلم قبل أن يتكلم، وألا يتكلم إلا عن علم.. ويجب على المسلم أن يخاف الله عز وجل، وألا يحكم بالردة أو بالكفر على أحد بدون روية وبدون تثبت وبدون علم.. وهذا هو كلام أهل السنة والجماعة ومذهب أتباع السلف الصالح في كل زمان وفي كل مكان. فرقٌ بين بيان الحق بدليله والدلالة عليه والتحذير من الكفر وما يوصل إليه ومن الشرك ومظاهر، وبين الحكم على الأفراد المعينين بالتكفير، فليُدعم خط المناقشات العلمية والمجادلة بالحسنى والردود الموضوعية التي يحفها أدب الحوار، وليعتنى بعرض الحجج، فإن الفائدة ستكون في ذلك، وعن شخصي فعلى استعداد لمناظرات علمية عبر صفحات هذه الصحيفة لمن يدافعون عن الترابي والحق ضالة المؤمن!!