من ما توارثناه عن أمهاتنا عبارة يرددنها عند رضائهن عن أي أحد يسدي إليهن معروفاً، وهي (يوم شكرك ما يجي)، وهي عبارة مستمدة مما تعارف عليه أهلنا في السودان، فهم غالباً لا يمجدون أحداً ولا يكترثون ولا يحفلون بما فعله من خير؛ إلا بعد فنائه واختفائه من هذه الدنيا؛ حيث نجد كثيراً من الناس يذكرون الميت بجميل أفعاله ودماثة خلقه وما قدمه من خير، وقد تصل تلك الاعترافات أجهزة الإعلام. أما المرحوم فقد عاش لا يعرف عن نفسه شيئاً مما عمله حتى يزيد منه أو يطمئن قلبه على أن عمله قد وجد استحساناً أو تقديراً، على الرغم من أن نيته ابتغاء وجه ربه، وما يجده عنده من جزاء، فالله سبحانه وتعالى يقول: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)(7)- سورة الرعد ولو أن المرحوم قدر له وأعيد للحياة لحظة؛ وسمع ما يقال عنه من مدح حتى من الذين كانوا ينتقدونه؛ لوقف مندهشاً محتاراً، ولطلب الرجوع إلى القبر هروباً من دنيا هم ساكنوها، وحقيقة الأمر أننا نفتقد أدب الاعتراف بفضل الآخرين، وقد نقلل من قيمة أعمالهم أو أفكارهم أو شأنهم، وهذا على كل المستويات أفراداً وأسراًَ وجماعات وأحزاباً ومسؤولين، وحتى أهل العلم والمعرفة أحياناً، وقد قيل إن قديماً كان في الناس الحسد؛ فجاء الدين لتحسين خلق الناس وتحريرهم من ذواتهم وتعليمهم محبة الآخرين، وحفظ حقوقهم، والرسول (صلى الله عليه وسلم) يقول: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق». «وها هو يقول عند فتح مكة: انصبوا لي خيمة عند بيت خديجة» اعترافاً بفضلها وهو ما زال يذكرها من بعد موتها، وقد جمع الأنصار مرة عندما أخبره سعد بن عبادة زعيم الأنصار بأن في نفوسهم شيء، فقال (صلى الله عليه وسلم) أما إنكم لو شئتم لقلتم ولصدّقتم به، أتيتنا مكذَّباًَ فصدقناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فأغنيناك، وذكرهم بفضلهم عليه، ويقول صلى الله عليه وسلم اعترافاً بفضل سيدنا أبي بكر؛ أعطاني ماله وزوجني ابنته، وما ساءني قط، ومن أحاديثه برد الجميل: من أسدى إليكم جميلاً فكافئوه؛ فإن لم تجدوا؛ فادعوا له حتى تعلموا أنكم كافأتموه. وعندما بسط سيدنا أبو بكر يده لسيدنا عمر ليبايعه بالخلافة قال قولته المشهورة: أي أرضٍ تقلني وأي سماءٍ تظلني أن أكون خليفة للمؤمنين وفيهم أبو بكر. فالاعتراف بفضل الآخرين من مكارم الأخلاق ولا يدل إلا على سمو الروح وأدبها ونقائها من شوائب الذات، وله ما له من سحر على النفس مهما تسامت وهو دافع لزيادة الخير فيها وتذكيرها بإثبات جميلها ففي التهادي تحبب وتواصل وترابط يعطي الحياة الاجتماعية رونقها، وينمي روح الترابط بين أفرادها حتى وإن كان العمل مبتغاه إرضاء وجه الله في نفس عاملة، فالنفس البشرية مبتغاها دائماً الجزاء وهي تتقبله حتى من بعضها؛ وإن لم تقصد به وجه الله. فكلمة جزاك الله خيراً؛ جزاء، وكلمة بارك الله فيك؛ جزاء. ومن يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله والناس فلو أننا أعطينا المحسنين حقهم وجزاء الإحسان الإحسان لملأنا الأرض خيراً وبركة؛ ولكننا بحرماننا رد الجميل وبعدم حفظ حقوق الآخرين والتعدي عليه أحياناً بالإدعاء والاستحواذ أو النكران لا يكون مردوده إلا منعاً للخير وبغضاً في النفوس وبعداً لروح المودة، فكم من خير انقطع بسببها، والناس في طباعهم يختلفون؛ فمنهم من يحجم ومنهم من لا ينتظر كلمة تخص عمله، وكلا الفريقين يجب علينا ملاحقتهما بالتقدير وحفظ حقوقهما وإشعارهما بامتنان القلب لهما؛ قبل أن يغادروا هذه الفانية فهي سجية لها أثرها ولها مفعولها في حياة الناس وتنمية روح المحبة بين أفراد المجتمع، فلنجعل أدب الاعتراف بفضل الآخرين عنوانا لأرواحنا وأرواح أبنائنا من بعدنا. فالسودان غني برجالات الخير ولكنه فقير بإثبات جمائلهم. اللهم اجعلنا جميعاً من السبعة الذين يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله، واجعل يدنا لا تعطي إلا من أجلك.