--اجتمعت عوامل جغرافية وحضارية ودينية وغيرها فأدت إلى بروز اللغة العربية بين لغات العالم قديماً وحديثاً، فكان اللسان العربي متميزاً بين ألسن البشر أيام قوة الدولة الإسلامية سياسياً، وظل متميزاًَ حتى العصور الحديثة التي ضعفت فيها الدول الإسلامية سياسياً وعلميًا، فظلت اللغة العربية قويةً كسابق عهدها، مأثرة في اللغات الأخرى ومتأثرة بها. تأثير لغات العالم في اللسان العربي: في باب اللفظ العربي فإن اللغة العربية تقع في مجموعة اللغات السامية، وهذه المجموعة تضم من اللغات المشهورة «العربية والعبرية والحبشية»، فمن البدهي أن تشترك هذه اللغات في كثير من ألفاظها بسبب الجذور الواحدة، فكثير من المشتركات اللفظية جاءت إلى لغة العرب من أخواتها الساميات، فجرت هذه الألفاظ على ألسنة العرب القدماء قبل الإسلام واتساع الدولة الإسلامية التي بلغ بها العرب أقاليم بعيدة عن مركز اللغة العربية في جزيرة العرب، مثل الشام والعراق وغيرهما، وفي هذا الباب ألف موهوب بن أحمد بن محمد الخضر المشهور بالجواليقي المتوفى عام 540ه كتاباً كاملاً سماه «المُعَرَّب من الكلام الأعجمي»، جمع فيه الألفاظ الدخلية التي أضافها العرب إلى لسانهم من لغات العالم الأخرى، وكلمة المُعَرَّب، تعني اللفظ الذي جاء إلى لغة العرب من لغات أخرى فجرى في لسان العرب وحكموه بما يحكمون به اللفظ العربي. وما يدل على تفاعل اللغة العربية واللغات الأخرى أن العرب أخذوا ألفاظاً من لغات أخرى لا تقع في مجموعة الساميات التي يصنف فيها العلماء اللسان العربي، فالفارسية والرومية لا تقعان مع العربية في مجموعة واحدة، ولكن أخذ منهما العرب ألفاظاً بحكم المجاورة والاختلاط، ولم يكن أخذهم من الفارسية والرومية مرتبطاً ببلوغ الإسلام تلك الأقاليم البعيدة عن مركزه، لكنهم أخذوا عنها في جاهليتهم، فقد ذكروا أن الشاعر الجاهلي امرأ القيس الكندي كان يكثر من استعمال الألفاظ الرومية في شعره لأنه كان يزور قيصر الروم وينادمه، ففي قوله: مُهَفْهَفَةٌ بَيْضَاءُ غَيْرُ مُفَاضَةٍ... تَرَائِبُهَا مَصْقُولَةٌ كَالسَّجَنْجَلِ يذكر أهل اللغة أن السجنجل لفظة رومية تعني المرآة، يدل هذا القول وأمثاله على أن لغة العرب أخذت من لغات العالم من غير مجموعتها المسماة بالسامية قبل الإسلام، ولما نزل القرآن بلسان العرب كانت هذه الألفاظ الدخيلة جارية في لسانهم ولها حكم اللفظ العربي، وفي هذا جمع السيوطي التوفى 911ه في كتابه «الإتقان في علوم القرآن»، أكثر من مائة لفظ من أصل غير عربي وردت في كتاب الله العزيز. لا شك أن كثيراً منا يتحرج حين يسمع أن في كتاب الله لفظاً أعجمي الأصل، ولكن السيوطي رفع الحرج عنا حين قدم لهذا الباب من الألفاظ فقال «وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْرُفَ أُصُولُهَا أَعْجَمِيَّةٌ كَمَا قَالَ الْفُقَهَاءُ، لَكِنَّهَا وَقَعَتْ لِلْعَرَبِ فَعَرَّبَتْهَا بِأَلْسِنَتِهَا وَحَوَّلَتْهَا عَنْ أَلْفَاظِ الْعَجَمِ إِلَى أَلْفَاظِهَا فَصَارَتْ عَرَبِيَّةً ثُمَّ نَزَلَ الْقُرْآنُ وَقَدِ اخْتَلَطَتْ هَذِهِ الْحُرُوفُ بِكَلَامِ الْعَرَبِ فَمَنْ قَالَ إِنَّهَا عَرَبِيَّةٌ فَهُوَ صَادِقٌ، وَمَنْ قَالَ أَعْجَمِيَّةٌ فَصَادِقٌ. وَمَالَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ الْجَوَالِيقِيُّ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ وَآخَرُونَ». أكثر الألفاظ الأعجمية الأصول في القرآن الكريم من اللغات السامية كالحبشية والعبرية والسُّريانية، وهي كما ذكرنا تقع مع اللغة العربية في مجموعة لغوية واحدة، وقد كانت أكثر هذه الألفاظ حبشية، فقد عد السيوطي في القرآن نحو ثمانية وعشرين لفظاً حبشياً مثل «قسورة»، التي تعني الأسد «كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ» سورة المدثر الآيتان «50 51-» وقد سمعت الأحباش في عصرنا هذا يسمون الأسد «عنبسة»، وهو في معاجم العربية اسم من أسماء الأسد وسمى به العرب الأعلام من الرجال ومنهم عَنْبَسة بن سعيد بن العاص. لعل غلبة الألفاظ الحبشية على الدخيل في القرآن الكريم يرجع إلى حكم الحبش لليمن في الجاهلية وقصة أبرهة معروفة، أما اللغات الأخرى التي عد السيوطي ألفاظها في القرآن فمن العبرية ثلاثة عشر لفظاً، ومن السريانية اثنا عشر لفظاً، وهما من مجموعة اللغات السامية وأختان للعربية، ومن الفارسية سبعة عشر لفظاً، ومن النبطية سبعة عشر لفظاً أيضاً، ومن الرومية تسعة ألفاظ، وبقية الألفاظ موزعة على لغات البربر والقبط والزنج ولغات أخرى. وجود هذه الألفاظ في القرآن الكريم يدل على أن اللفظ العربي قد انفتح على ألسنة العالم منذ العصور الأولى للغة العرب، ولم تكن اللغة منغلقة على ذاتها بل متطورة وموافقة للتواصل الحضاري الذي تمثل اللغة مظهراً قوياً من مظاهرهِ. تأثير اللفظ العربي في لغات العالم لم تكن اللغة العربية تأخذ من غيرها افتقاراً، بل كان الأمر تفاعلاً حضارياً بينها وبين اللغات الأخرى، وسبب التفاعل لم يكن محصوراً في المجاورة مثل الفرس والروم، أو الاشتراك في الجذور والنشأة مثل العبرية والحبشية والسريانية، لأن لغة العرب القديمة أخذت كما ذكر السيوطي من الزنج والبربر والقبط، وهي أمم تفصلها عن العرب فواصل قارية معروفة، وعلى الرغم من هذه الفواصل فإن اللفظ العربي طرق أبواب هذه اللغات وأخذ منها، كذلك أثرت اللغة العربية في ألفاظ اللغات الأخرى التي لا يجمعها بها مشترك النشأة مثل الإنجليزية وأخواتها، وأكثر ما نلحظ وجود الألفاظ العربية في لغة الهند مثل «دنيا، موت، إجازة.....»، لكن التأثير الأكبر يظهر عندما نجد لفظة عربية استخدمها شعراء جاهليون لم يكونوا يعرفون شيئاً عن لغة الإنجليز، ثم تجد هذه اللفظة مستعملة في كلام الإنجليز مثل كلمة cover التي تعني «غطاء»، وهي بهذا المعنى عند الشعراء العرب القدماء، فقد جاءت في معلقة لبيد بن ربيعة العامري مرتين بصيغتين مختلفتين وكلا الصيغتين قصد بها لبيد معنى التغطية: انظر قوله في وصف بقرة وحشية أصابها المطر يَعْلُو طَرِيقَةَ مَتْنِهَا مُتَوَاتِراً... فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ غمَامُهَا أي غطى الغمام النجوم وقوله في وصف الليل: حَتَّى إذا أَلْقَتْ يَداً فِي كَافِرٍ ... وَأَجَنَّ عَوْرَاتِ الثُّغُورِ ظَلاَمُهَا... فالكافر هنا هو الليل لأنه يكفر الأشياء ويغطيها، ووافق هذا المعنى قول شاعر الحقيبة ود الرضي: طاف خيالك والليل كافر... أما كفر بمعنى الإنكار فقد جاءت في معلقة عنترة: نُبئتُ عمرواً غير شاكر نعمتي* والكفر مخبثة لنفس المنعمِ بعض الألفاظ نستخدمها اليوم باعتبارها دخيلة على اللسان العربي، وأنها جاءت إلينا حديثاً من لسان الفرنجة بعد الاستعمار الأوربي للبلاد العربية، لكن كثيراً من هذه الألفاظ نقلها الفرنجة من اللغة العربية، ثم جاءت إلينا في معاجمهم فحسبناها أعجمية بسبب ابتعادنا عن المعاجم العربية، مثل كلمة double التي تعني التضعيف أو الاثنين، فالحرفان المثلان المتواليان في اللغة الإنجليزية مثل AA هما doble A لكن مادة «دبل» جاءت في لسان العرب بمعنى التضخيم والتضعيف والتكبير أيضاً، جاء في معجم لسان العرب، لابن منظور المتوفى 711ه : «دَبَلَ الشيءَ يَدْبِلُهُ ويَدْبُلُهُ دَبْلًا: جَمعَه كَمَا تَجْمَعُ اللُّقمة بأَصابعك. والتَّدْبِيل: تعظيمُ اللُّقمة وازْدِرادُها. ودَبَلَ اللُّقمة يَدْبُلُها ويَدْبِلُها دَبْلًا ودَبَّلَها: جَمَعها بأَصابعه وكَبَّرها»؛ وفي الشعر القديم جاءت كلمة «دبل» بصيغة الفعل «دبَّل يدبِّل»، مثل قصة المزرد بن ضرار وهو شاعر من مخضرمي الجاهلية والإسلام خلطتُ بصاعَيْ حِنْطةٍ صاعَ عجوةٍ * إلى صاعِ سمنٍ فوقه يتربعُ «ودبَّلتُ» أمثال الأثافي كأنها*رؤوسُ نقاد قُطّعَت يومَ تُجْمَعُ والنِّقاد: صغار المعزى وجاءت اللفظة أيضا في كتاب «الإمتاع والمؤانسة»، لأبي حيان التوحيدي، المتوفى 400ه، حيث ذكرها في موضعين كليهما مقترن بالطعام في قول الشاعر: حيّاك ربّك واصطبحت ثريدةً * وإدامُها رزّ وأنت تُدبِّلُ وقول الآخر أقولُ لمّا ابتركوا جنوحاً * بقصعةٍ قد طُفِّحتْ تطفيحاً دبِّل أبا الجوزاءِ أو تطيحاً هذه لفظة عامة في استعمال الناس لها ولكن من الألفاظ ما اكتسب خصوصية لاقترانه بتخصص عالمي معين، وقد رفدت اللغة العربية العلم الحديث بكثير من ألفاظها وتعابيرها التي نقلت إلى اللغات الأخرى نقلاً حرفياًََ، من ذلك مصطلح في علم التشريح يصف الجانب غير الفعال أو البعيد في جسم الإنسان وهو(LATERAL FISSURE)، وكلمة LATERAL تعني في المعجم «جانبي» لكن (LATERAL FISSURE) مترجم في القاموس الطبي «الشق الوحشي» وأفادني الطبيب الطيب المبارك عبد القادر الخبير: أن «الجانب الوحشي من الجسم سمى بهذا الاسم الدال على البعد لأنه يتصف بعدم الفعالية أو ضعفها أو قلة الأهمية، وأن الجزء الفعال من المخ عند أكثر الناس هو الجانب الأيسر، وأن كل جانب بعيد من الجسم والفعالية يسمى بالوحشي LATERAL) )، إذن فإن الجانب الأيمن من المخ يدل في الغالب على البعد عن الحيوية والفعالية، وتسمية الجانب الأيمن بالوحشي معروف في بوادي العرب لأن الأمر يتعلق عندهم يتعلق بالبهائم والركوب والحلب، جاء في شرح التبريزي المتوفى 205ه، لمعلقة عنترة في البيت وكأَنمّا تنأَى بِجانبِ دَفِّها الوَحشيِّ من هَزِجِ العشِيِّ مُؤَوَّمِ هِرٌّ جَنِيبٌ كُلَّما عَطَفَتْ لهُ * غَضْبَي اتَّقاها باليدَينِ وبالفَم «والوحشي: الجانب الأيمن من البهائم، وإنما قيل له وحشي لأنه لا يركب منه الراكب ولا يحلب الحالب» وهذه دلالة على خمول هذا الجانب من البهيمة وبعده عن الاستعمال والفعالية. فهذا التشابه في اللفظ والمدلول برهان على أن اللفظ العربي مهما أوغل في القدم والبداوة، فإن حيويته تظل تصحبه ليكون معبراً عن المصطلح العلمي الحديث.