نستقبل هذه الأيام ذكرى استقلال السودان وهي الذكرى التي ظلت تؤكد عظمة هذا الشعب الذي انتزع حريته بتضحيات كبيرة وبمواقف مشهودة، كان لمدينة عطبرة فيها قصب السبق، بحكم ثقلها العمالي الذي مثل رأس الرمح في معارك الحرية والاستقلال والتي شارك في قيادة مواكبها الهادرة من أصبحوا بعد ذلك رموزًا للحركة الوطنية بالبلاد مثل مبارك زروق ومحمد أحمد المحجوب وإبراهيم المحلاوي ومحمد نور الدين، وكانت نقابة عمال السكة الحديد هي التي أشعلت أولى شرارات الحركة الوطنية ضد الاستعمار بما نظمته من المواكب والإضرابات وأصبحت قاعدة الانطلاق للحركة النقابية بالبلاد. يقول المؤرخون للحركة الوطنية حول الدور الذي لعبته عطبرة في زعزعة الاستعمار إن أول شرارة لمقاومة المستعمر انطلقت في عطبرة يوم 2/2/1947م خلال الاحتفال بمولد المصطفى «صلى الله عليه وسلم عندما اعترض أحد العمال موكب مأمور المركز في طوافه على سرادق المولد وهتف بسقوط الاستعمار وانضم إليه المئات من حضور الليلة الختامية بساحة المولد وتدخلت الشرطة لفض الموكب العفوي واعتقلت «19» من المتظاهرين قدم «16» منهم للمحاكمة في اليوم التالي أمام المحكمة الأهلية، وحوكم الثلاثة الآخرون فيما بعد بأحكام قاسية. أما الانتفاضة الثانية والشهيرة لعطبرة فهي ما سميت بحركة شهداء الجمعية التشريعية أو مظاهرات النادي الأهلي الذي أسسه بعطبرة مجموعة من المنتمين للتيار الاتحادي الذين كونوا تنظيماً مشتركاً سموه «جبهة الكفاح الداخلي» وانضم إليهم عدد من القيادات، وفي سنة 1948م أنشأت الحكومة كيانًا دستوريًا يسمى الجمعية التشريعية واعترضت عليها معظم الأحزاب وتم تنظيم مظاهرات مناهضة لهذه الجمعية كانت أبرزها التي نظمها النادي الأهلي في 15 نوفمبر 1948م ذلك اليوم الذي افتتحوا فيه الجمعية التأسيسية، ويضيف بعض المؤرخين أن الغرض من هذا التنظيم الجديد هو مناهضة قيام المجلس الاستشاري لشمال السودان، وكان قوام موكب عطبرة الشهير في أواخر عام 1948 هم عمال السكة الحديد الذين تجمعوا منذ الصباح الباكر بدار النادي الأهلي وقبل أن يتحرك الموكب تمت محاصرته بقوات كبيرة من البوليس الذي طلب منهم التفرق غير أنهم رفضوا التهديد وأصروا على خروج الموكب ليحدث الاصطدام بين الجانبين وينهمر الرصاص على المتظاهرين ويسقط خمسة من الشهداء هم: عبد العزيز إدريس وعبد الوهاب حسن مالك وفؤاد محمد سيد أحمد وحسن دياب وقرشي الطيب وهم أول من قدموا أرواحهم في كفاح المدني ضد الاستعمار في السودان لينال الوطن استقلاله ويتخلص من دنس المستعمر. موكب آخر مماثل قاده عمال السكة حديد عندما قاموا باختيار لجنة تمهيدية للنقابة برئاسة سليمان موسى وسكرتارية محمد عبيدي بردويل ونائبه قاسم أمين وأزعج هذا التكوين المستعمر الإنجليزي ورفض الاعتراف باللجنة الأمر الذي استفز القاعدة العمالية التي خرجت كلها من الورش ومواقع العمل المختلفة صباح يوم 13/7/1947م واتجهوا في موكب حاشد نحو مبنى العموم للمطالبة بالاعتراف بلجنتهم ولكن البوليس حاصر الموكب ومنعه من التقدم وحدث الاشتباك بين الجانبين وتم اعتقال «52» عاملاً وأعلن في نفس المكان عن الإضراب المفتوح وهو أول إضراب للعمال في السودان، وبعد مرور عشرة أيام من الإضراب وصل إلى عطبرة وفد اتحادي من قيادات مؤتمر الخريجين اجتمع بإدارة السكة الحديد وانتزع اعترافها بقيام التنظيم العمالي وعلى إثر ذلك تم رفع الإضراب وتكونت اللجنة التنفيذية لهيئة شؤون العمال برئاسة سليمان موسى وسكرتارية الطيب حسن ونائبه قاسم أمين وتحولت لنقابة عمال السكة الحديد الحالية في عام 1949م. مدينة عطبرة ورصيفاتها من مدن نهر النيل شاركت أيضا في الزخم الوطني الكبير المعادي للاستعمار، عبر مختلف الوسائل، ولكن مساهمة عطبرة الأدبية والفنية تجلت عندما تغنى أمير الأغنية الوطنية الفنان حسن خليفة العطبراوي بكلمات الشاعر يوسف مصطفى التني: يا غريب ... يلا لبلدك لملم عددك وسوق معاك ولدك انتهت مددك وعلم السودان يكفي لسندك (2) ذكروا تشرشل يحترم وعده قالوا في الميثاق كل زول بلدو وديل بواقيكم لس ليه قعدو؟! ويقول المؤرخ د. عثمان السيد إن الشاعر هنا يشير إلى ميثاق الأطلسي الذي أصدره كل من روزفلت رئيس الولاياتالمتحدة وتشرشل رئيس وزراء بريطانيا في 14 أغسطس 1941م والذي يقضي بمنح الشعوب الحكم الذاتي وحق تقرير المصير. وأردفها الراحل حسن خليفة بالعديد من الأناشيد والأهازيج التي هيّجت مشاعر المواطنين وزادت حامستهم للتضحية من أجل الاستقلال.