الإمارات.. الإجراءات والضوابط المتعلقة بالحالات التي يسمح فيها بالإجهاض    مستشار الأمن القومي في الإمارات يبحث مع مايكروسوفت التعاون في التكنولوجيا المتقدمة!    الحرارة وصلت 51.. تحرك برلماني لاستثناء صعيد مصر من تخفيف أحمال الكهرباء    ماذا لو فاز؟.. ترامب يضع أهدافا مستقبلية أهمها "ملاحقة بايدن"    لاعب كرة قدم يخطف الأنظار بمظهره "الغريب" خلال إحدى المباريات    إسرائيل: «تجسد الوهم»    الهلال الأحمر القطري يشرع في شراء الأضاحي بهدف توزيعها على النازحين    وسط حضور جماهيري كبير ...منتخبنا يبدأ تحضيراته بملعب بلك    الإعدام شنقاً حتى الموت لشرطى بإدارة الأمن والمعلومات    ما تقوم به عصابات ألأراضي في بحر أبيض لايقل خطورة عن النهب والسرقة التي تقوم بها مليشيات التمرد    دائرة المرور السريع تفوج حجاج بيت الله الحرام وتكمل استعدادتها لتفويج المواطنين لعيد الاضحي المبارك    بعد موسم خال من الألقاب.. البايرن مستعد للتخلي عن 6 لاعبين    السنغال تعمق جراح موريتانيا بعد السودان    ((خواطر …… مبعثرة))    اللعب مع الكبار آخر قفزات الجنرال في الظلام    جون مانو يقترب من اهلي بنغازي    المدير العام لقوات الشرطة يؤكد ان قوات الاحتياطي المركزي قدمت تضحيات كبيرة في معركة الكرامة    البرهان يؤكد عزم القوات المسلحة القضاء على المليشيا الإرهابية وأعوانها    مجزرة ود النورة... هل تسارع في تصنيف مليشيا الدعم السريع منظمة إرهابية؟    حبس عمرو دياب.. محامٍ يفجر مفاجأة عن "واقعة الصفع"    اتحاد الكرة السوداني يشيد بحكومة جنوب السودان    تحديات تنتظر رونالدو في يورو 2024    شاهد بالفيديو.. الفنانة إنصاف مدني تضع زميلتها ندى القلعة في "فتيل" ضيق: (هسا بتجيك نفس تحملي في أوضة وبرندة وسط 13 نفر وفي ظروف الحرب دي؟)    شاهد بالفيديو.. شاب من أبناء "الشوايقة" يتوعد القائد الميداني للدعم السريع "جلحة": كان فضلت براي في السودان ما بخليك (جاك الوادي سايل أبقى راجل عوم والمطر البدون براق جاك يا الشوم)    انقطاع الكهرباء والموجة الحارة.. "معضلة" تؤرق المواطن والاقتصاد في مصر    نصائح مهمة لنوم أفضل    إغلاق مطعم مخالف لقانون الأغذية بالوكرة    شرطة بلدية القضارف تنظم حملات مشتركة لإزالة الظواهر السالبة    الجزيرة تستغيث (4)    انتظام حركة تصديرالماشية عبر ميناء دقنة بسواكن    "كعب العرقي الكعب" .. وفاة 8 أشخاص جراء التسمم الكحولي في المغرب    التضخم في مصر.. ارتفاع متوقع تحت تأثير زيادات الخبز والوقود والكهرباء    إجتماع بين وزير الصحة الإتحادي وممثل اليونسيف بالسودان    أمسية شعرية للشاعر البحريني قاسم حداد في "شومان"    تونس.. منع ارتداء "الكوفية الفلسطينية" خلال امتحانات الشهادة الثانوية    السعودية.. البدء في "تبريد" الطرق بالمشاعر المقدسة لتخفيف الحرارة عن الحجاج    وفد جنوب السودان بقيادة توت قلواك يزور مواني بشاير1و2للبترول    صدمة.. فاوتشي اعترف "إجراءات كورونا اختراع"    بنك السودان المركزي يعمم منشورا لضبط حركة الصادر والوارد    عودة قطاع شبيه الموصلات في الولايات المتحدة    داخل غرفتها.. شاهد أول صورة ل بطلة إعلان دقوا الشماسي من شهر العسل    محمد صبحي: مهموم بالفن واستعد لعمل مسرحي جديد    خطاب مرتقب لبايدن بشأن الشرق الأوسط    السودان.. القبض على"المتّهم المتخصص"    قوات الدفاع المدني ولاية البحر الأحمر تسيطر على حريق في الخط الناقل بأربعات – صورة    الأجهزة الأمنية تكثف جهودها لكشف ملابسات العثور على جثة سوداني في الطريق الصحراوي ب قنا    ماذا بعد سدادها 8 ملايين جنيه" .. شيرين عبد الوهاب    الغرب والإنسانية المتوحشة    رسالة ..إلى أهل السودان    من هو الأعمى؟!    حكم الترحم على من اشتهر بالتشبه بالنساء وجاهر بذلك    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اندلاع السلام (نيفاشا) ..الحلقة (14)
نشر في الانتباهة يوم 14 - 01 - 2012

لم يكن أي من الجانبين يتوقع أن تدوم الجولة طويلاً، ولكن بعد ثلاثة أو أربعة أيام قرر الجانبان متابعة التفاوض، وكان على الأمانة العامة نقل المحادثات إلى منتجع سيمبا على بحيرة نيفاشا لدواعٍ لوجستية، بدأت الأطراف المشاركة في مناقشة جدول الأعمال، وكيفية تنظيم المحادثات.
وعندما اتصلت عبر الهاتف للوقوف على مجريات الأحداث اتفق الزعيمان على أن الجو في الجلسات الكاملة كان متوتراً، وكانا قد شرعا بالفعل في لقاءات ثنائية، وذكر قرنق أن طه بدا حذراً جداً، وجامداً بعض الشيء وانعزالياً في البداية، كان للنكات والقصص دورها المساعد، كما ينبغي لها، طوال فترة المفاوضات. فكما يستذكر علي عثمان: «بعد حين شعرنا بعدم الارتياح إزاء الأمانة العامة ووجود طرف ثالث، كانت المناقشات التي أجريناها تشبه شأناً عائلياً أو نزاعاً أسرياً، لقد شعرنا بعدم الارتياح إزاء وجود شخص آخر، وكانت هذه هي الأشياء التي نحن بحاجة إليها لفهم أنفسنا داخل الأسرة، إذا جاز التعبير، أدركنا أن وجود الأمانة العامة يمكن أن يعقِّد الأمور أكثر من مساعدته لنا. ولهذا السبب انتهى بنا الأمر إلى التفاوض بأنفسنا دون وجود أي شخص آخر في الغرفة.
تناوبت المفاوضات بين الزعيمين لوحدهما، وبين التشكيلات الرباعية، لم يكن مسموحاً لأحد آخر بالحضور، لا الوسيط ولا أي من مراقبي الترويكا أو الخبراء، ومن الآن فصاعداً، اتخذ الطرفان المشاركان المسؤولية الكاملة عن قراراتهم بأنفسهم، وكانت الأجواء تجنح نحو الانبساط والاسترخاء بعيداً عن التوتر والانقباض.
في صباح اليوم التالي للانتقال إلى منتجع سيمبا، فوض الزعيمان سيد الخطيب وباغان أموم للعمل بشكل منفصل بشأن الترتيبات الأمنية، وكان سيد، وهو عضو بارز جداً في حزب المؤتمر الوطني قد شارك في المحادثات من البداية أما باقان أموم فقد التحق بالمحادثات بعد اتفاق مشاكوس لكنه لم يكن أقل شأناً، فقد كان باقان وهو ينحدر من قبيلة الشلك بأعالي النيل، قائداً كبيراً جداً، وهو أحد المستشارين المقربين من الدكتور جون قرنق وقد أتاح له الرئيس الكثير من المرونة وحرية الحركة كمفاوض، حيث أثبت في نيفاشا أنه مثابر وكدود وصانع قرار في ذات الوقت، دائم الاستعداد للقتال وتحمل المخاطر عند الحاجة وانخرط الاثنان في العمل.
في مساء اليوم السابع من سبتمبر أرسلت السفارة النرويجية في نيروبي خبراً مفاده أن طه وقرنق يودان التحدث معي. بادر قرنق بالاتصال أولاً، كان التركيز في المفاوضات على القضية الشائكة المتمثلة في الترتيبات الأمنية. وكانت الحركة الشعبية قد تقدمت بالخطوط العريضة لمقترح ينطوي على تقسيم القوات العسكرية إلى شمالية وجنوبية، مع وحدات مدمجة تشكل رمزاً للوحدة الوطنية وتمثل أساساً لجيش وطني في المستقبل، على أن تنسحب القوات المسلحة السودانية إلى الشمال من خط العرض «13»، والجيش الشعبي إلى ما تحت خط العرض «13»، مع وجود منطقة منزوعة السلاح بينهما. من ناحية أخرى، أرادت الحكومة أن تُبقي القوات المسلحة السودانية في الجنوب، على أن يكون الجيش الشعبي كنوع من الحرس المحلي، أشار قرنق إلى أن هذا الأمر غير مقبول، وأنه حتى طه نفسه قد سبق أن اعترف له شخصياً بأن القوات المسلحة السودانية كانت في بعض الأحيان تعمل كأداة للأسلمة ولغيرها من سياسات الخرطوم، أما بشأن الوجود العسكري في المناطق الثلاث، فقد كانت مواقف الأطراف أيضاً متباعدة جداً عن بعضها البعض، ولم يختلف ما ورد عن طه لدى اتصاله بي عما ذكره قرنق.
في اليوم التالي طرحت الحركة الشعبية اقتراحها خطياً، كان وقع ذلك على وفد الحكومة سيئاً، حيث وصف ما تم بأنه انقلاب في المواقف التي أعلنتها الحركة قبل يوم واحد.. تلقيت اتصالاً من كلا الجانبين، حيث أبدى الجميع قلقهم من أن نائب الرئيس يمكن أن ينسحب من المحادثات، طالبين مني إقناعه بالبقاء تحدثت إلى علي عثمان محمد طه ذلك الصباح. أعرب علي عثمان عن خيبة أمله العظيمة من أن نظيره بدا عازماً على التراجع عن التقدم الذي أحرزته مناقشاتهما الثنائية، كان اقتراح الحكومة قد قصد منه أن يمثل حلاً وسطاً، حيث يتم تشكيل قوات متكاملة على أساس الوحدات المسلحة الموجودة، وكان طه حزيناً بشكل خاص من استخدام الحركة الشعبية لكلمة «انسحاب» التي تعني الهزيمة ضمنياً.
سواء كان ذلك مصادفة أم لا، فإن نائب الرئيس شكا أيضاً من أحد جوانب قضية تقاسم السلطة، كان النائب قد أعرب عن استعداده لمغادرة وظيفته من أجل رئيس الحركة، لكن قرنق كان قد اقترح على طه تولي منصب رئاسة البرلمان الفخيم حتى تتاح فرصة الرئاسة، أُصيب نائب الرئيس بخيبة أمل، وأعرب عن ذلك صراحة استجابة لذلك، حاولت في ردي أن أنقل الصورة الأكثر إيجابية التي نقلها قرنق عن المفاوضات، وعزمه هو على التفاوض بحسن نية وإيجاد الحلول البناءة للقضايا المتبقية، واستعرضت أيضاً مواقف الحركة متناولة إياها بالشرح والتفصيل، موضحة أن «الانسحاب» إلى ما بعد خط العرض «13» على سبيل المثال، قد يكون مجرد موقف تفاوضي.
بعد أن تحدثت مطولاً مع الشخصيتين المحوريتين في المفاوضات أدركت حجم الاختلاف بينهما، ليس فقط في مواقفهما التفاوضية، ولكن أيضاً في نظرتهم العامة وطرائق تفكيرهم وأنساق قيمهم وتوقعاتهم، لقد كانت تجربة غريبة، فقد كانوا اثنين من قادة البلد نفسه، ولكن كان حجم الاختلاف بينهما مهولاً، عليه بدأت «أترجم» سأقول لكل واحد منهم: «أنا أدرك كيف ترى أنت الأمر، ولكنك حين تقول ذلك فإن نظيرك سيسمعه ويفهم شيئاً آخر غير ما تعنيه أنت». كان هذا مفيداً بشكل خاص خلال الأشهر الأولى من المحادثات، قبل أن يتسنى لهم التعرف على بعضهما البعض. لكن حتى بعد تلك المرحلة، كانت كلما نشأت مواجهات حول قضايا التفاوض الصعبة، تكون هنالك حاجة ملحة لا تزال لهذا النوع من «الترجمة».
طه يريد الرحيل
في اليوم الثامن من ديسمبر وبعد تناول طعام الغداء هاتفني قرنق معرباً عن قلقه إزاء انقطاع التواصل مع طه، حيث لم يتم اللقاء بينهما منذ الرابع من ديسمبر، أطلعت قرنق على ردود فعل علي عثمان، وطلبت من الحركة الشعبية أن تتخلى عن إصرارها على انسحاب القوات المسلحة السودانية إلى ما وراء خط العرض «13» إذ أنه لا بد من احترام حدود عام 1956م بين الشمال والجنوب وذكرت له أيضاً أن أي تعبير آخر بدلاً من «الانسحاب» سيكون مفيداً، وعندما أبدى دكتور جون دهشته لعدم تلقيه رداً على عرضه بلقاء طه مرة أخرى في أي وقت طلبت منه أن يبدي استعداده ليس فقط للقاء ولكن أيضاً لتعديل المواقف. وفي وقت لاحق من ذلك اليوم بعثت الحركة الشعبية بخبر يفيد بأن اقتراحاً معدلاً سيتم تقديمه قريباً. وعلى الرغم من هذا فقد علمنا في اليوم التالي 9 سبتمبر أن طه كان يهدِّد بالمغادرة إذ أنه لم يكن ينوي مطلقاً البقاء لفترة طويلة جداً على أية حال، كما أن لديه أعمالاً هامة لإنجازها في الخرطوم، طلب كبير مفاوضي الإيقاد وقادة الحركة الشعبية إن كان بوسعي إقناع طه بالبقاء، إذ أن رحيل النائب الأول للرئيس سيكون خصماً على ما تحقق من زخم، فوعدت بالمحاولة، ولحق الأمريكيون بالركب كذلك، وهو ما أصبح ملمحاً راتباً للمفاوضات.
اتصلت بطه لحثه على البقاء في نيفاشا. كانوا قد بدأوا في المفاوضات للتو، وإذا ما غادر الآن، فإن المحادثات ربما تنهار تماماً، وأخبرته أن الحركة الشعبية ستتقدم بموقف جديد حول موضوع الأمن لاحتواء محاذير الحكومة، حيث سيشتمل هذا الموقف على تنازلات هامة. كما أنهم سينظرون أيضاً في أمر مقترحات أخرى بشأن اقتسام السلطة والرئاسة إذا ما استمرت المحادثات وقمت بتذكير طه أن قرنق كان قد غادر مؤتمراً هاماً يضم «1250» ضابطاً من الجيش الشعبي لتحرير السودان في رمبيك إضافة لاجتماع مجلس قيادة الجيش الشعبي من أجل الحضور إلى نيفاشا، لكل هذا فسيكون من المستحيل بالنسبة لقرنق وللمراقبين الدوليين تفهم مغادرة طه الآن من دون سبب جيد ومقبول، أجاب علي عثمان بأنه كان على علم بالعناصر الرئيسية لمقترح الحركة الشعبية الذي هم بصدد تقديمه، وأمّن على أن ذلك من شأنه أن يضفي ديناميكية جديدة على المحادثات، غير أنه لم يزل قلقاً حول غياب التوفيق بين المواقف في مجالات مهمة، كما أنه كان يرى أن هناك حاجة الآن للاستعانة بخبراء عسكريين في المحادثات على أي حال، وذكر أنه كان قد ناقش هذا الأمر مع وزير الدفاع في صباح ذلك اليوم. كما أن هناك حاجة إلى مشورة تقنية مماثلة في مجالات اقتسام السلطة والثروة، وذكر أن لديه التزامات في الخرطوم وأنه سيكون من الممكن عودتهم في غضون أسبوع أو أسبوعين لمواصلة المحادثات رفيعة المستوى.
كنت قلقة جداً لهذا الأمر، إذ أن أي انقطاع في هذه المرحلة سيعني ضمنياً فشلاً في العلاقة الشخصية الوليدة بين الزعيمين، أخبرت طه بأن الحركة مستعدة للتفاوض بشأن كل القضايا المتبقية. كما ذكرت له أنه إذا ما تسربت تنازلات الحركة الشعبية إلى وسائل الإعلام، فإن تلك الحلول الوسطى ستكون أكثر صعوبة بالنسبة لقرنق، كما أخبرته بأنه إذا ما كانت هناك حاجة لمساعدة الخبراء فإننا سنقوم باستقدامهم إلى نيفاشا، ووافق طه على أن توقف المحادثات الآن قد يعقد الأمور.. كما أشار إلى أن مخاطر التسريب إلى الصحافة تنطبق على كلا الطرفين وفي نهاية مناقشتنا، تعهد بأنه سيسعى لمعرفة ما إذا كان ممكناً استقدام الخبراء العسكريين لنيفاشا، حيث إنه سيكون في تلك الحالة على استعداد للبقاء، وفي وقت لاحق من ذلك اليوم اتصل دكتور جون بطه مباشرة وعرض عليه التخلي عن كلمة «الانسحاب» لصالح «إعادة الانتشار».
بعد وقت قصير من محادثتي مع النائب الأول للرئيس علمت أنه سيبقى في نيفاشا في آخر الأمر، وبأن وزير الدفاع وعدداً من الجنرالات سيأتي من الخرطوم للانضمام إلى المفاوضات واستؤنفت المحادثات المباشرة بين طه وقرنق، وحضر سفير السودان في النرويج «تشارلز مانيانق داوول» لتقديم امتنان حكومته على الدور الذي تلعبه النرويج، لقد كانت العلاقة الشخصية التي أسستها الآن مع النائب الأول للرئيس مهمة جداً بالنسبة للمحادثات، وقد شجعني هو نفسه على رعايتها وتنميتها، واتصل بي دكتور جون ليقول نفس الشيء، لو كان طه قد غادر، فإن الحركة الشعبية كانت ستسحب المقترحات الخاصة بالقضايا الأمنية، وأن المفاوضات ستكون قد انهارت.
كان رئيس الحركة الشعبية الآن راسخاً في قراره بمواصلة المحادثات إلى ما بعد المسائل الأمنية التي تظل، مع ذلك على رأس قائمة أولوياته، ويستذكر طه ما قاله له دكتور جون في ذلك الوقت: «إن كنت تستطيع أن تعطيني المفتاح لفتح الباب، فإنه سيكون بمقدورنا إبرام اتفاق». كان المفتاح المعني هو مفتاح الأمن، وكما ذكر لي بنفسه «عندما نكمل معالجة القضايا الأمنية، فإن الباقي سيكون يسيراً تماماً كالانسياب نزولاً نحو أسفل الجبل». وقد ثبت بالتأكيد أنه كان مخطئاً في هذا الأمر، إذ إن المحادثات ستستمر لفترة أطول مما كان أي منا سيتصور في أي وقت مضى.
صعوداً وهبوطاً
على الرغم من أن كلا الزعيمين لم يزل في نيفاشا، فإن القضايا الأمنية كانت أبعد ما تكون عن الحل. لم يسهم وصول وزير الدفاع، الفريق بكري حسن صالح في أن يجعل الأمور أكثر يسراً، كان الانطباع الواضح يتمثل في صعوبة إقناع طه للجنرالات بحسن نوايا الحركة الشعبية، كما كان واضحاً أيضاً أن الجيش يرغب في إتباع إستراتيجية للدمج الكامل لقوات الحركة. وفي حوالى منتصف ليل يوم العاشر من سبتمبر اتصل بي دكتور جون ليخبرني بأن وفد الحكومة كان يمارس «التلكؤ»، فثمة شخصٌ ما كان يحاول «القضاء على طه» حيث رمى قرنق بذلك إلى أن الأشخاص في معسكر الرئيس البشير يقفون في وجه أي تقدم بشأن معالجة القضايا الأمنية، وأشار إلى أن هناك شكوكًا حول دور الدكتور غازي بالنظر إلى وجهات نظره بشأن القضايا الأمنية إضافة إلى حادثة الاستغناء عنه كرئيس لفريق المفاوضين، ولكن كانت مجموعة الخرطوم التي كانت تعارض اجتماع طه قرنق بانتظام هي التي تضع الصعوبات الآن في حقيقة الأمر. وقمت باطلاع والتر كانستينر على المناقشات التي جرت مع قرنق وعلى الحاجة إلى إجراء اتصالات رفيعة المستوى بالخرطوم.. وإذا ما لزم الأمر فإن وزير الخارجية كولن باول سيقوم بالاتصال بالرئيس البشير.
مهما يكن فقد أعرب طه الآن عن خيبة أمله في المقترح المعدّل للحركة الشعبية لتحرير السودان، لم يكن تخليهم عن المطالبة بانسحاب القوات الحكومية وراء خط العرض «13» تنازلاً، كما قال لي فبموجب شروط بروتوكول مشاكوس فإن المناطق المعنية تعتبر شمالية، على أي حال كان طه معترضاً على الجدول الزمني المقترح للانسحاب، وعلى حجم جيشي الحكومة والحركة بعد الحرب، وعلى إعادة الانتشار المقترح للجيش الشعبي. فكما ذكر طه، لن تتنازل الحكومة على طاولة المفاوضات عمّا لن تستطيع الحركة تحقيقه عسكرياً.
في اليوم نفسه كنت في مأدبة غداء رسمية استضافها رئيس الوزراء النرويجي «كييل ماغني بونكليفيك» عندما رنّ هاتفي المحمول، كان الأمر محرجاً بالنسبة لي، إلا أنه في هذه المرحلة من محادثات السودان كان لزاماً عليّ أن أكون «تحت الطلب» في جميع الأوقات، كان المتصل هو دكتور جون، الذي لم يكن سعيداً بموقف الحكومة حول الحجم المقترح للقوات المسلحة في الجنوب، كانت المحادثات قد انتهت إلى طريق مسدود بالكامل، لم أكن نفسي خبيرة عسكرية، وأعرف القليل فقط حول مستويات حجم القوات.. غير أني كنت قد انخرطت في تلك المناقشات بما فيه الكفاية لمعرفة ما كنا نتعامل معه من أمر. كنا ندرك أن الحركة الشعبية لم تكن تريد أن تكشف عن الأعداد الحقيقية لأفرادها في الجانب العسكري، أما الآن فإن القضية تتعلق بحجم القوات الحكومية.. وعلى الرغم من أن الحكومة كانت قد ذهبت بعيداً جداً في الاتجاه الآخر، إلا أنه لم يكن هناك من سبب لتشدد الحركة الشعبية في رفضها للأمر على ذلك النحو، أخبرت دكتور جون أن الوقت قد حان لإظهار المرونة، دافع دكتور جون عن موقفه، لكنه وافق في نهاية الأمر.. الآن يمكن المضي قدماً في المحادثات.. أوضحت لعلي عثمان أن الحركة الآن على استعداد لإبداء المرونة بشأن الجدول الزمني وحجم القوات في الجنوب: وذكرت له «أن المشكلة الرئيسية لقرنق تتعلق بإدماج الحركة في الجيش السوداني، مع السيطرة الدائمة للقوات الحكومية على المدن الرئيسية بالجنوب، مما يجبر الجيش الشعبي على البقاء في الأحراش.. لن يكون هذا الوضع مقبولاً لدى حكومة إقليمية جديدة بالجنوب، ولن تتقبله الحركة الشعبية بالطبع». كما حاولت كذلك أن أبين أن العديد من المواقف المعدلة للحركة هي عبارة عن تنازلات في واقع الأمر.. وفي نهاية الحديث ألمح علي عثمان إلى استعداده لإعادة المحاولة. لقد طرحت الحركة الآن بدائل أكثر مرونة بالنسبة لتشكيل ونشر القوات في الجنوب.
استجابة لطلب من الحكومة قدم وفد الحركة الشعبية أيضاً مواقفه بشأن القضايا الأخرى، وكانت العديد من المواقف لا تختلف كثيراً عن ما تضمنته وثيقة ناكورو التي قد تقدمت بها الإيقاد.. كان رد الفعل من جانب الحكومة كما كان عليه الحال في السابق هو اتهام الحركة الشعبية بالطرح المتكرر لمواقف جديدة أو إعادة فتح المسائل التي تمت تسويتها، كان الوضع خطيراً هذه المرة.. فقد كان طه مستاءً، وقال إنه سيكون من الصعب عليه أن يدافع عن استمرار المشاركة في المحادثات إذا ما استمر ذلك الاقتراح، غير الواقعي تماماً، مطروحاً على الطاولة، اتصل بي تشارلي سنايدر من وزارة الخارجية الأمريكية مشيراً إلى محادثة أجراها كانشتاينر مع طه بعد ظهيرة ذلك اليوم: فقد حذر النائب الأول للرئيس من انهيار كامل للمحادثات. وأشار طه لكانشتاينر بأنه «لم تتبق له سوى ساعات قليلة، ليغادر» وأنه الآن يريد بوادر جديدة من الحركة الشعبية، لم يتمكن الأمريكيون من الوصول إلى قرنق، فطلبوا مني إن كان بوسعي الاتصال به عبر الهاتف.
تعلم «فنون» الإقناع
كان الوقت المتبقي على بداية الحملة الانتخابية الأمريكية قصيراً جداً، لذا فمن الأفضل استكمال المحادثات في أقرب وقت ممكن، اتصلت بدكتور جون على الفور، وكان مهيئاً للتراجع قال:
ردود الفعل هذه ليست سوى محاولة من الحكومة لصرف الانتباه بعيداً عن القضايا الأمنية لقد طلبت منا الحكومة تقديم مواقفنا حول القضايا الأخرى المتبقية، أما وهذه المواقف على الطاولة الآن، فإنهم لا يودون أخذها على محمل الجد.. إن ما تقدمنا به من اقتراح ليس إنذاراً نهائياً، وإنما هو أساس للتفاوض.
حدثته عن مدى خطورة الوضع، وأن كلاً من واشنطن وأوسلو الآن قلقتان جداً من أن المحادثات قد تنهار، قلت له:
اتفهّم أن لديك أسبابك الخاصة للتعامل مع الوضع على هذا النحو، إلا أن عدم فعل أي شيء الآن يشكل تهديداً لموقف «طه» إذ إنه إذا ما اضطر إلى الانسحاب من المحادثات، فإن عملية السلام برمتها ستتأثر، إن من الأهمية بمكان أن تُظهر مسؤولية وطنية وزعامة، وتساعد في إنقاذ الوضع من خلال إظهارك الرغبة في إبداء المرونة في القضايا الأساسية.
أشار قرنق إلى أنه طلب من باقان الاتصال ب«سيد الخطيب»، لإبداء الاستعداد لمناقشة تلك القضايا، بالنسبة لرئيس الحركة، كان تحقيق تقدم على جبهة المسائل الأمنية يمثل المفتاح لحل القضايا الأخرى، أخبرته بأن الاتصال المباشر مع طه يمثل ضرورة الآن، فأجاب أنه يمكن للأمريكيين، أو شخصي، إبلاغ طه بأنه مستعد للقاء، لذلك أخطرت سنايدر بأن ينقل الرسالة إلى طه في أقرب وقت ممكن.
وفي وقت لاحق من ذلك المساء أبلغنا أن طه كان قد قرر مواصلة المفاوضات، فبعد يومين من التوتر التقى طه وقرنق معاً الآن لمدة سبع ساعات متصلة، دون انقطاع لمناقشة تلك القضايا، وأفاد كلا الزعيمين في وقت لاحق أن المناقشات كانت مفتوحة وبنّاءة، وتتجه بتؤدة نحو الحل، وللتأكد من سلامة الجانب الفني، تم استقدام اثنين من المستشارين من كل جانب، كما تم إجراء مزيد من المناقشات الفنية في يوم الأحد الرابع عشر من سبتمبر، وهي عملية ساعد فيها الجنرال فولفورد.
ورغم أن العقبات الأولى في هذه المرحلة الأولية من المفاوضات الأمنية قد تم تخطيها، إلا أن أكثرها إثارة للجدل كانت ما تزال تنتظر الحل، كانت تلك هي العقبات المتعلقة بحجم ووضع الجيشين «القومي والجنوبي»، وسحب القوات الحكومية من الجنوب، والخط الحدودي الذي يجب أن يتم ذلك الانسحاب وراءه. كانت هذه النقطة الأخيرة هي الأصعب: فقد وقف الدكتور غازي، تدعمه شخصيات بارزة في المؤسسة العسكرية، ضد أي انسحاب على الإطلاق، مقترحاً بدلاً من ذلك «تجميداً» للقوات كل في المنطقة التي تليها خلال الفترة الانتقالية، بينما يمثل وقف إطلاق النار ضمانة للسلام. وكان قرنق قد اقترح أيضاً وحدات متكاملة مشتركة يتم نشرها في المناطق الحساسة، كان طه يميل بشكل إيجابي نحو ذلك الاقتراح ولكن وزير الدفاع، الفريق بكري، تلكأ في القبول، وكان قد تم التخطيط لوحدات متكاملة مشتركة بموجب اتفاق أديس أبابا عام 1972م، وهي التجربة التي ربما ساهمت في هذه المقاومة «الحكومية» وفي إصرار الحركة الشعبية، كانت الصعوبات التي وجهت بعد عام 1972م، سواء في استيعاب القوات الجنوبية أو في المناوشات المستمرة، لا تشجع على تبني خطة مماثلة في الوقت الراهن. وفي النهاية قبلت الحكومة بإعادة نشر قواتها إلى الشمال، ولكن على مدى فترة ممتدة مع وجود قوة مشتركة كبيرة في الجنوب. كان هناك خلاف أيضاً على حجم الوحدات المتكاملة المشتركة لجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق، فضلاً عن الخرطوم. وكان وجود جنود الجيش الشعبي في منطقة الشرق يمثل القضية الأكثر صعوبة، فالحكومة تطالب بالانسحاب الكامل، في حين أن الحركة الشعبية كانت تمارس الضغوط من أجل الوجود الدائم.
كانت كثير من القضايا الأمنية ما تزال عالقة، وشملت هذه القضايا كيفية التعامل مع «الجماعات المسلحة الأخرى»، وهي تعني المليشيات والمجموعات شبه العسكرية، أما وقف إطلاق النار الشامل وتمويل الجيش في الجنوب، فضلاً عن مؤسسات الأمن القومي، فسيتم التعامل معها في المفاوضات النهائية لاتفاق السلام، وبالنسبة للحركة الشعبية، سيتم التفاوض على وقف إطلاق النار فقط عندما يتم التوصل إلى اتفاق حول كل القضايا الأخرى، مرحلياً كان وقف العدائيات يقصد منه منع القتال من تقويض المفاوضات، وأضحت مسائل «الجماعات المسلحة الأخرى» وانسحاب الجيش أكثر إثارة للجدل، حيث إنها كانت ترتبط بقضايا حساسة مثل الحدود والسيطرة على الموارد النفطية.
كانت المفاوضات صعبة، وكانت الشكوك تساور الحكومة بأن الحركة الشعبية تسعى لكي يكون لديها قوة في الجنوب أكبر مما كان ضرورياً، وذلك استعداداً للاستقلال أو تأهباً لتجدد اندلاع الحرب، بينما كانت الحركة الشعبية قلقة بطبيعة الحال من سعي الحكومة لاستغلال المفاوضات لتحجيم القوة العسكرية للحركة بقدر الإمكان، كان غياب الثقة المتبادل بين الطرفين عميقاً، وكان كلا الجانبين، على حدة قد عبّر لي عن قلقه، موضحاً الدوافع الخفية للجانب الآخر، وكان التغلب على هذه الشكوك مهمة ليست باليسيرة.
ما زلت أذكر حديثي مع كلا الطرفين من أفغانستان في يوم 17 سبتمبر عبر خط اتصال هاتفي مشوش من فندق تملأ جدرانه ثقوب الهاون، فيما أن اتفاق وقف الأعمال العدائية كان سينتهي في 30 سبتمبر، كنت أريد أن يوقع الجانبان على تمديد لذلك الاتفاق في أقرب وقت ممكن، هدأوا هم من روعي وأبلغوني بأنهم سيفعلون ذلك قريباً، كان علي عثمان هادئاً جداً على الهاتف، وذكر أنه «متفائل بحذر»، لا تزال بعض القضايا العالقة، وأنه قد يكون من الضروري الاتصال بي طلباً للمساعدة.. أما الدكتور جون فقد ذكر لي أن المحادثات تسير على ما يرام، وأنه أيضاً كان متفائلاً: فيما أنه قدم الكثير من التنازلات بشأن قضية الأمن، فإنه لا ينبغي أن يكون من الصعب إيجاد حلول للقضايا الأخرى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.