في مسيرة الإنسان عبر العصور والأجيال المختلفة لا بد من التفكير العميق في تجارب الأمم والشعوب لاستخلاص العبرة، ومعرفة مضامينها، للاقتداء بمعطياتها الإيجابية النافعة المفيدة، ونبذ السلبية المؤذية المضرة وبفضل الله تعالى وعنايته، اجتازت البشرية منذ الأزل وإلى يومنا هذا، مراحل مختلفة من درجات الوعي ومستويات الفهم لحقائق الحياة، بالإدراك السليم المستنير، حتى استطاع العقل الإنساني اكتشاف مخترعات علميةٍ حديثة، وإنجازاتٍ أخرى مبتكرة في شتى مجالات الحياة. وهذا التدرج المرحلي للوعي، والإدراك القويم للعاملين، يدلنا عليه قول المولى عز وجل في محكم تنزيله: «إن هو إلا ذكر للعالمين لمن شاءَ منكم أن يستقيم وما تشاؤون إلا أن يشاء اللهُ ربُّ العالمين». سورة التكوير الآيات «27 29». وفي مراحل التدرج وتطورها لبلوغ أسمى وأرفع الأهداف والمقاصد العليا المجيدة القويمة، يجد الإنسان نفسه أمام خيارين، أحدهما: الحق الذي يهدي للخير والرشاد وصالح الأعمال، والآخر ضار وباطل ذو بريقٍ زائفٍ خداع من يتبعه يضل طريقه نحو الصواب ويهوي به إلى قاعٍ سحيقٍ من الغواية والضلال! ولذا، يجب على الإنسان أن يتبع سبل الحق والرشاد ولا ينخدع، فينجرف في طريق الغواية والضياع! ويقول الله تعالى في كتابه العزيز: «كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال» سورة الرعد، الآية «17». وكما درج الإنسان عبر الأزمنة المختلفة على التأمل والنظر في التراث الأدبي والفكري من الآثار المعمارية والفنية القديمة بغرض الدراسة والبحث لمعرفة المناخ العام «اجتماعياً واقتصادياً وعلمياً وفكرياً وفنياً» في حياة الشعوب والأمم السابقة. ويحمد للكاتبة الباحثة الأستاذة هناء سليمان محمد الماحي اهتمامها بتقصي الحقائق والمعلومات الوافية الدقيقة في كتابها عن مؤثرات «الغربة في الشعر الجاهلي». وقبل عرض النماذج الشعرية المعبِّرة عن الهموم والأشجان من جراء الغربة في الشعر الجاهلي، آثرت المؤلفة إلقاء الضوء على المناخ العام للبيئة التي عاش فيها شعراء الجاهلية وفق الأسس والقواعد التي تعتمد عليها البحوث والدراسات الأدبية والتاريخية في مجالي: المرجعية والتوثيق. وتقول المؤلفة هناء سليمان الماحي عن الملامح العامة لبيئة الشعراء في الجاهلية استناداً إلى مقولة الأستاذ محمد بن سلام الجمحي في «طبقات الشعراء»: إن الشعر في الجاهلية عند العرب كان ديوان علمهم ومنتهى حكمتهم، به يأخذون وإليه يصيرون.ومن المظاهر السلبية الضارة في العصر الجاهلي آفة التعصب للقبيلة، وبعض الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي مثلت باعثاً قوياً من بواعث الاغتراب في ذلك العصر وقد راجت في البيئة الجاهلية عبادة الأصنام ووأد صغار الإناث ولعب الميسر، وشرب الخمر وغيرها من الرذائل والآثام. وانتهى العصر الجاهلي بظهور الدين الإسلامي الحنيف الذي بدد ظلمات الغواية والشرك والآثام بنور الحق والعدل والإيمان ولكي نحدد تاريخياً ظهور الدعوة الإسلامية، نقول إنها ظهرت بحمد الله تعالى في حوالى عام 612م، وهاجر النبي محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة في عام 622م، وكانت حجة الوداع،، وبعد وفاة الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام في عام 632م، اكتمل جمع القرآن في عام 653م.. وتولى الخلفاء الراشدون الحكم في الأعوام من 632م إلى 661م، والخلفاء الأمويون من عام 661م إلى عام 750م، والعباسيون من عام 750م إلى عام 809م. ومن شعراء الجاهلية: ٭ عنترة بن شداد العبسي «عاش في حوالى عام 525م إلى عام 615م»، وله قصائد عديدة في الشجاعة والحماسة، منها قوله: لعمرك أن المجد والفخر والعلا ونيل المنى وارتفاع المراتب لمن يلتقي أبطالها وسراتها بقلبٍ صبورٍ عند وقع المضارب! ومن أشجان الفراق في قلب عنترة بن شداد قوله في إحدى قصائده لحى الله الفراق ولا رعاه فكم قد شك قلبي بالنبال أقاتل كل جبارٍ عنيدٍ ويقتلني الفراق بلا قتال! وأمرؤ القيس «500م 540م»، شاعر جاهلي ولد في نجد وتوفى في «أنقرة» صاحب المعلقة الأولى التي يقول في مطلعها: قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل وفي قصيدة لأمرئ القيس عبر فيها عن مشاعر الغربة وهو يخاطب إحدى جاراته، قائلاً: أجارتنا إن الخطوب تنوب وإني مقيم ما أقام عسيب أجارتنا إنا غريبان ها هنا وكل غريبٍ للغريب نسيب! و«عسيب» المذكور في الشعر أعلاه، اسم «جبل». وقد أشار الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى «530م 627م» إلى الغربة في إحدى قصائده قائلاً: ومن يجعل المعروف في غير أهله يكن حمده ذماً عليه ويندم ومن يغترب يحسب عدواً صديقه ومن لم يكرم نفسه لم يكرم! والشاعر الجاهلي طرفه بن العبد «نحو 538م 564م» ولد في البحرين، وهو من أصحاب المعلقات، وله ديوان شعر.. وعن الفراق ولواعج الشوق.. والحنين في وجدانه، قال: قفي ودعينا اليوم يا بنة مالك وعوجي علينا من صدور جمالك قفي لا يكن هذا تعلة وصلنا لبينٍ ولا.. ذا حظنا من نوالك أخبرك أن الحي فرّق بينهم نوى غربةٍ ضرارةٍ لي كذلك ولم ينسني ما قد لقيت وشفني من الوجد أني غيرنا ناسٍ لقاءك! ومن ديوان الشاعر طرفة بن العبد، قدمت المؤلفة الأستاذة هناء سليمان شرحاً لبعض الكلمات المذكورة في قصيدة «طرفة» على النحو التالي: ٭ كلمة «عوجي» تعني = أعطفي وتحنني. وكلمة «التعلة» تعني = كل ما يتلهّى به. و«النوال» يعني = العطاء. و«النوى» = البُعد.. و«شفني» أهزلني وجعلني ضعيفاً! وفرقة الديار وهجرها، ثم البكاءُ عليها، والحنين إليها، نجدها سمة واضحة في كثير من قصائد شعراء العصر الجاهلي، وهي سمة تدل على سوء الأحوال الاقتصادية والمعيشية مما يجعل الناس يهجرون مساكنهم اضطراراً، بحثاً عن الأمن والاستقرار النفسي ولقمة العيش. والشاعر الجاهلي عبيد بن الأبرص بن عوف الأسدي «المتوفى سنة 545م» كان كثير الوقوف على أبواب الأمراء والسلاطين، وله قصائد كثيرة في مدحهم. وقد اعتملت بوجدانه أشجان وهموم عندما أبصر الديار أطلالاً خالية والأرض مقفرة، ولم يتمالك نفسه من شدة الحزن، فأنشد قصيدته باكياً وهو يقول: أمن منزلٍ عارفٍ ومن رسم أطلال بكيت وهل يبكي من الشوق أمثالي ديارهم إذ هم جميع فأصبحت بسابس إلا.. الوحش في البلد الخالي! والبسابس في اللغة العربية جمع «البسبس» التي تعني القفر الخالي. وللشاعر الجاهلي بشر بن أبي خازم حكاية طريفة عندما سافر إلى الحيرة «بين النجف والكوفة» لزيارة الملك النعمان برفقة النابغة الذبياني وعبيد بن الأبرص، وقابلوا في طريقهم بدوياً يرعى الإبل، وطلبوا الإذن بالضيافة عنده، فأذن لهم مرحباً.. وكان ذلك البدوي حاتم الطائي الذي أحسن استقبالهم، ونحر لكل واحدٍ منهم ناقة احتفاءً وتكريماً لهم! والشاعر بشر بن أبي خازم «توفى نحو 533م»، ومن أشعاره عن الرحيل والغربة قوله: فلما أدبروا ذرفت دموعي وجهل من ذوي الشيب البكاء كأن حمولهم لما استقلوا نخيل محلم.. فيها.. انحناءُ! وفي ختام هذا الموضوع، لا بد من إزجاء التحية والثناء لمؤلفة كتاب «الغربة في الشعر الجاهلي» الأستاذة: هناء سليمان محمد الماحي التي هيأت لي لحظات طيبة مع نماذج من تراث الشعر العربي، كما أشكر الصديقين العزيزين: الدكتور يحيى التكينة والأستاذ محمد سليمان اللذين قدما لي هذا الكتاب لإلقاء الضوء عليه.