وكتبنا هُنا كثيراً أن المؤمنُ الحقُّ لا يكُونُ »غبيَّاً«، وأن أُولَى واجباتِ الإيمان، بل وأماراته التي طالما أكدتها آيُ القُرآنِ العظيم، وأحاديث الصادق الأمين، هي النظرُ، بعقلٍ مفتوحٍ، والتفكر والتأمُّل في خلق السماوات والأرض، ثم التدبُّرُ في كتاب الله، وما كان اللهُ ليأمُر بذلك التدبر وذلك التأمُّل والتَّفَكُّر من لا يقدرُ عليه !! الله لم يخلُقْ غبيَّاً، وإنما يُكتَسَبُ الغباءُ كما تُكْتَسَبُ سائرُ الرَّذائل، بالرُّكُونِ إلى الشهواتِ والتثاقُلِ إلى الأرضِ واتِّباع الهَوى وعبادة العاجلة.. ووالله لن ترى أبداً داعيةً إلى الله أو فقيهاً في دين الله، غبيَّاً، إلا حقَّ لك أن ترتاب في دينه، كما أنك لن تَرى أبداً، امرءاً يُلدَغُ من جُحرٍ مرَّتين إلاَّ وحَقَّ لكَ بل وجب عليك أن تحكُمَ بتجرُّدِهِ من الإيمان!! .. أتظُنُّ يا مولانا أن محمَّداً، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم، كان يمزَحُ حين قال: (لا يُلدّغُ المؤمِنُ من جُحرٍ مرَّتين)؟؟ مع أن هذا الذي يُلدَغُ من جُحرٍ مرَّتينِ لا يؤذي أحداً غيرَهُ، ولا يتعمَّدُ حتَّى إيذاءَ نفسِه، ولا يُحقِّق بذلك التعرُّضِ غيرِ المقصُودِ منهُ للَّدغ والأذَى، أيَّة شهوةٍ من شهواتِهِ أو هَوىً من أهوائه!! .. لماذا، يا تُرَى، يحكُمُ سيِّد الحُكَماءِ بانتِفاءِ الإيمانِ عن هذا المسكينِ، مع كلِّ البلاءِ الذي يُصيبُهُ جرَّاء اللدغ المُتَكرِّرِ من عَدُوٍّ لا يخافُ الله ؟؟؟ إذا تأمَّلْتَ حال المُسلمين اليوم، يا مولانا، بعقلٍ مفتوحٍ، أدرَكتَ الحكمة الباهرةَ في هذا الحديث الشريف الصحيح، وأدركتَ، أيضاً، أنَّ الإيمان والعقلَ لا يفترقان أبداً، ولو تأمَّلتَ سيرةَ المؤمنين الأوائل، ممن وُلدُوا مُشركين ثم أسلموا، لرأيتَ عجباً، وأنت تُقارِنُ بين حوادث غبائهم قبل ايمانهم، وعبقرية إبداعهم بعد ايمانهم، وحسبُكَ لهذه المُقارنة ابن الخطاب أُنموذجاً، فقد حَكَى، رضي الله عنهُ، من وقائع غبائه قبل أن يهديهُ الله إلى الإسلام ما يجعلُكَ تندهِشُ بعدها، وأنت تراهُ يُصبِحُ، بعد إسلامهِ، واحداً من أعظم عبقريات الوجود الإنساني على الأرض!!.. والحديثُ الشريفُ هذا، يصلُحُ أن يخاطبَ به أفرادُ المؤمنين، كما يصلُحُ أن تخاطَبَ به مؤسساتهم الصغيرةُ والكبيرةُ، ويصلُحُ أيضاً، بل يجبُ، أن تخاطَبَ به دولُهُم، بل الأُمَّةُ بأجمعِها، والحديثُ هذا، يُبَرِّرُ الخُروجَ على الحاكم الذي يُلدَغُ من جُحرٍ مرَّتين فأكثر، لأن الحديث يحكُمُ بعدمِ إيمانِ ذلك الحاكم!!، ويُبَرّرُ إعفاءَ أيِّ مسؤولٍ، مهما علا مقامُهُ، إذا هُو تعرَّضَ للَّدغِ من جُحرٍ واحدٍ مرَّتين، لأنَّ اللدغاتِ التي تستهدِفُهُ بفعل غبائه إنما تُصيبُ الأُمَّة التي يلي شيئاً من أمرها في مقتل.. ووالله لو أن المُسلمين أنزلُوا هذا الحديثَ منزِلَهُ، والتزمُوا حُكمَهُ وحِكمَتَهُ، لاختلف حالُهم اليوم عما هُو عليه من هوانٍ وذُلٍّ، فإنك إن تأمَّلتَ جيداً قادتَهُم لرأيتَهُم إلاَّ من رحم الله ممن اعتادُوا أن يُلدَغُوا من الجُحرِ الواحِدِ مائة مرَّةٍ، ثُمَّ تراهُم يفخَرُونَ، أحياناً، بأن الله سلَّم !! ورُبَّما برَّرَ بعضُهم الهوان الذي ألحقهُ بأُمَّته، بالزعمِ أنهُ أفضَلُ مما كان يُمكِنُ أن يلحق بهم من هوانٍ لو كان أحدٌ غيرُهُ في مكانِهِ (والروائي الفلسطينيُّ البصير، إميل حبيبي، شخَّصَ في روايتهِ »المتشائل« حالَ المرءِ الذي يُلدَغُ من الجُحر مائة مرَّة، ثُمَّ يفخَرُ بأن الله قد آتاهُ بصيرةً نافذة، حمتهُ من أن يُلدغَ مائة وعشر مرَّات!!، فالمُتشائلُ عند إميل حبيبي هُو الرَّجُلُ الذي يُبَرِّرُ كُلَّ بلاهةٍ يرتكبُها، وكُلَّ مصيبةٍ تُصيبُهُ جرَّاءَ تلك البلاهة، بأنه: (كانَ من المُمكِنِ أن يكُونَ الأمرُ أسوأ من هذا) .. حتَّى الموتُ نفسَهُ، يُبَرِّرُهُ بطل رواية المُتشائل، بأنَّهُ (كان من الممكن أن يتم بطريقةٍ أبشع من هذه، ولكن الله سلَّم !!).. إميل حبيبي كان في الواقع يُحاوِلُ تقديم صورةٍ معاصرةٍ للشخصية العربية المنهزمة، ورُبَّما لم يكُن يُدرِكُ أنَّهُ يرسُمُ في الحقيقة صورةً دقيقة للرجُل الذي يُلدَغُ من الجحر الواحد مرَّتين فأكثر، ثم ينامُ مطمئناً على إيمانِهِ.. هل تذكُر آخر لدغة تعرضنا لها من ذات الجحر؟؟ وطيب!!