دارسو التاريخ والباحثون يتفقون حول أن منطقة العباسية تقلي وما حولها من مناطق كثيرة شهدت قيام مملكة إسلامية عُرفت بمملكة تقلي الإسلامية عاشت زهاء خمسة قرون في أرجح الروايات وهي ثالث مملكة إسلامية قامت في السودان بعد مملكتي دارفور الإسلامية بقيادة السلطان علي دينار ومملكة الفونج الإسلامية التي أسسها عمارة دنقس وعبد الله جماع والتي عُرفت أيضاً بمملكة سنار أو السلطنة الزرّقاء، وقد عاصرت مملكة تقلي الإسلامية الأيام الأخيرة من عهد السلطنة الزرقاء. ومملكة تقلي الإسلامية هي التي ناصرت وآزرت الإمام المهدي حينها هاجر إليها من أقصى شمال السودان باحثاً عن قاعدة آمنة تنطلق منها دعوته التي لم تجد الدعم الكافي في الشمال والوسط لدواعٍ أمنية وجغرافية، ولذا اتجه صوب كردفان واختار الجزء الشرقي منها حيث ما يُعرف اليوم بمنطقة العباسية تقلي، ومن الأخطاء التاريخية والعلمية التي لا تستند للبحث العلمي الموضوعي والذي لا يقوى أمام النقد العلمي الأمين كان كثير من الناس سواء الذين قرأوا عن تاريخ المملكة أو كتبوا عنها كانوا يعتقدون أن تقلي يقصد بها قبيلة وهذا إسقاط تاريخي مادي خاطئ مفلس، وإنما تقلي منطقة وليست قبيلة، ورأينا هذا يصدق التاريخ والواقع المعيش هناك، وهو أن منطقة تقلي يقطنها منذ القدم عشرات القبائل المختلفة، كما أنه لا يوجد في تاريخ وجغرافيا السودان قديماً وحديثاً ما يشير مجرد إشارة إلى أن تقلي قبيلة ولا يوجد بين قبائل السودان هذا الاسم.. وهو الأمر الذي دفعنا لكتابة سلسلة من المقالات في صيف 2008 من خلال صحيفة «الإنتباهة» تصحيحاً لمسيرة تاريخ هذه المملكة ومنعاً للتضليل التاريخي لأجيال المنطقة والذي مارسته بعض الكتابات المحلية التي اعتمدت على روايات مقطوعة الإسناد ومتعارضة في سردها، كما أن المملكة لم تطبق الشريعة الإسلامية والأحكام الإسلامية بصورة مثلى لتفشي الأمية فيها، وضعف التعليم الدّيني الذي ولد كثيراً من الانحرافات العقدية، ورغم ذلك نستطيع أن نقول إن جميع سكان المنطقة مسلمون وتخلو المنطقة تماماً من الكنائس خلافاً للمنطقة الغربية من جنوب كردفان حيث يوجد بها كثير من الكنائس والوثنيين والنصارى إضافة إلى المسلمين. ومن الخلط المشاهد والمسموع أيضاً يظن كثير من الناس أيضاً أن منطقة تقلي هي جبال النوبة وهذا ليس صحيحاً أيضاً، والصواب أن جبال النوبة تقع في المنطقة الغربية من جنوب كردفان، ومنطقة تقلي تقع في المنطقة الشرقية من جنوب كردفان ولذا تُعرف بالجبال الشرقية. ومملكة تقلي كان يمتد نفوذها حتى منطقة كاكا التجارية جنوباً وتجاور ولاية شمال كردفان الحالية من الاتجاه الشمالي الغربي وتجاور ولاية النيل الأبيض من الاتجاه الشمالي الشرقي.. غير أن نفوذ المملكة اليوم تراجع كثيراً حتى صار مثل ظل الجبل، هذا إن لم نقل انتهى وتلاشى وهذا موضوع نؤخر الحديث عنه.. وبعد هذا التمهيد المهم ندلف إلى لب موضوعنا.. ولعل الداعي الأبرز لكتابة هذا المقال هو الأحداث التي شهدتها المناطق المجاورة لمدينة العباسية تقلي عاصمة المحلية الجديدة التي منحتها الإنقاذ في أواخر العقد الثاني من عمرها بعد انتظار طال أمده.. وإني أذكر حين كتبت مقالاً شكرت فيه حكومة المؤتمر الوطني حين أعلنت عن قيام هذه المحلية قبل نحو سنتين تصدى لي أحد «مرافيد» الشرطة من أبناء مدينة العباسية بصورة جاهلية وواهمة لأني شكرت الإنقاذ على قيام المحلية، والصواب في رأيه الأعوج أن نشكر الحركة الشعبية، وقال يومها في مقال ضعيف بعث به إلى «الإنتباهة» نشرناه له في وقته زعم فيه أنه يرد فيه عليّ وقال قولته الخيل .... والشكر لحّماد» وقد رأيت وقتها أن لا طائل من التعقيب على إسفافه ذاك. إن الأحداث التي وقعت خلال الأيام الماضية والتي تمثلت في تسلل جماعات متمردة مما يعرف بالحركة الشعبية في جنوب كردفان بعد انفصال جنوب السودان فتح الباب واسعاً أمام كثير من التساؤلات أهمها كيف وصلت هذه المجموعات إلى جوار مدينة العباسية في ضواحيها الجنوبية لتروع المواطنين العزل في مناطق «جراوية» و«كرموقية» و«طاسي» و«كودي علي» دون أن تجد أي قوة ومقاومة.. حتى قتلت وروّعت وشرّدت؟ للإجابة عن هذا السؤال أقول إن هناك مجموعة متمردة وطابورًا خامسًا داخل مدينة العباسية وهذه المجموعة يرجع تاريخها إلى المذكرة التي رُفعت إلى الهالك قرنق أيام مفاوضات أبوجا وما بعدها وامتداداً إلى المؤتمر المشبوه الذي عُقد في مدينة العباسية والذي رعته الحركة الشعبية من خلال منظمة مجرمة وهو الذي مهد الطريق إلى انضمام بعض الأفراد إلى الحركة الشعبية وفيهم نافذون من إمارة تقلي.. وسبق لي أن كتبت عدة مقالات حول علاقة إمارة تقلي بالحركة الشعبية وأهداف مؤتمر العباسية المشبوه الذي غُلِّف تحت غطاء مؤتمر القبائل. ثم ما لبث أن تكاثر أنصار الحركة الشعبية حتى خارج العباسية في تيري والموريب وأبو كرشولا ورشاد وهم الذين مثلوا بداية النكسة لتاريخ مملكة تقلي الإسلامية حين سقطوا بإتباعهم لهذا الهالك وحركته العنصرية التي بشرت السذج وأنصاف المثقفين منهم والجهلة والأميين والفاقد التربوي منهم بالمن والسّلوى فشقوا عصا المجتمع المحافظ وبذروا فيه بذور الفتن والخصام، وانساقوا وراء كفر الحركة وفضلوا الرّدة على هدى الإسلام ويومها ناقشناهم وحذرناهم فأبوا إلاّ العناد والضلال والفجور في الخصام. إن المنطقة الشرقية كلها ظلت آمنة ومستقرة وعصية على التمرد حتى أيام الحرب الأولى بفضل قيمها وأخلاقها، ولكن بعد نيفاشا قام أشرارها النفعيون وجلهم من سقط المجتمع هناك فدخلوا في صفوف الحركة لضعف الوازع الدّيني والأخلاقي ولذا هم اليوم حملة الفتنة هناك قاتلهم الله الأمر الذي يظهر حقيقة أن قيم المملكة الإسلامية قد تداعت وانهارت وخان أبناء المملكة سمعة مملكتهم التي ما عاد لها صوت مسموع بعد. إن إحداث ريفي العباسية يتحمل مسؤوليتها معتمد رشاد والعباسية اللذان لم يحسنا إحكام السيطرة على مداخل محليتيهما.. حيث كيف يعقل ألاّ تكون هناك قوة معتبرة تؤمن نقاط مسيرة الطريق الدائري الحلم الذي راود أهالي المنطقة سنين عدداً.. فكم من مرة دخل الموازنة العامة للدولة ثم خرج.. حيث لا يُعقل أن يؤمن طريق كامل وحيوي بعدد لا يزيد على سبعة إجال من الشرطة كما جاء في بعض الروايات.. ثم سؤال آخر أين قوة اللواء الأول في أبو جبيهة من تأمين هذا الطريق؟ سبق لي في مقالات سابقة بعد أحداث كادقلي الأخيرة أن أكدت أن هناك أسلحة وقنابل يدوية وُزِّعت في كل من العباسية والموريب من قبل الحركة الشعبية لإحداث تفجيرات واغتيالات هناك.. وقامت الشرطة بإلقاء القبض على بعض منسوبي الحركة في العباسية والموريب وتيري وسواهم ولكن لم يتم التعامل معهم بصورة تمنع خطرهم على أمن المنطقة ولذا هم اليوم يمثلون خلايا نائمة وطابوراً خامساً يوفر المعلومات والخرط لغزو المنطقة من قبل فلول الحركة الأمر الذي يحتّم حسم هذا التمرد من قبل الأجهزة الأمنية هناك. ثم لماذا ظل جبل أم درمان في جنوب غربي رشاد مأوى لهؤلاء المارقين وهو في متناول الجيش والأمن؟ علماً أن هناك معلومات تؤكد أنه منذ رمضان والأضحى هناك حركة غير طبيعية في هذه الجبال أين دور الاستخبارات العسكرية؟ لقد بذل الأخ الوالي أحمد هارون جهوداً مقدرة حتى صرنا نشفق على الرجل من كثرة ظهوره ببزته العسكرية وهو كل يوم في منطقة لإطفاء الحرائق وملاحقة المارقين الذين يريدون تخريب التنمية والاستقرار السياسي الذي حققه الأخ الوالي ومعاونوه وهم يمثلون أعني المارقين دولة وجيشاً أجنبياً بعد الانفصال! أذكر أني تحدثت مع الأخ إبراهيم بابكر محافظ رشاد الأسبق بحضور الأخ محافظ أبو جبيهة الأسبق الأخ محمد عمر عبد الله في بيت الأخير بالخرطوم وقلت للأخ إبراهيم إن الحركة الشعبية تمثل خطراً جديداً على قيم المنطقة فقال لي الأخ إبراهيم إن قيم الناس هناك تربيتهم لا تسمح بدخول هذه الأفكار وكان هذا الكلام قبل نيفاشا لكن ماذا حدث اليوم. هنا علينا أن نذكِّر أهالي المنطقة وخاصة في الموريب والعباسية بما ظللنا نقوله إن التستر والتعاون مع فلول الحركة الشعبية والطابور الخامس يعرض المنطقة بأسرها للانفلات الأمني والصراع القبلي والسياسي في منطقة ظلت آمنة مستقرة والاحتقان الأعمى نحو حكومة المركز لا يولد إلاّ مزيداً من التخلف والدمار وهو ما لم يرق لكثير من الناس مما جعلهم ينظرون إلى هذه الافكار بشيء من الريبة والسطحية وتصفية الحسابات الشخصية، ولكن ماذا حدث الآن؟ فها هي بين ليلة وضحاها تحولت المنطقة إلى حرب وقتال وعمليات وهذه بوادر نزوح تطل برأسها لأول مرة في تاريخ المنطقة.. لقد ظللنا بصورة دائمة عبر الكتابة والمساجد واللقاءات المباشرة نحذر المواطنين والأجهزة الأمنية من مغبة التفرج على أولئك الصعاليك الجهلة الذين يسمون أنفسهم بالحركة الشعبية وفيهم للأسف بعض من المعلمين الذين طالبنا من قبل بتتبع ملفاتهم وفصلهم وطردهم حتى لا يخربوا عقيدة وأفكار لأجيال هناك ويمهدوا لصراع قاتل. وعليه فليقارن كل عاقل اليوم كيف تعيش المنطقة الآن وكيف عاشت في فترة ما قبل الحركة الشعبية.. وندعو الأخ الوالي أن يضرب بيد من حديد على هؤلاء العملاء الذين يمثلون دولة أجنبية معادية للسودان بعد أن فشلت في تحقيق حلمها الزائف وهو مشروع السودان الجديد الذي يقوم على فكرة الدولة العلمانية التي تقصي الإسلام ولغة القرآن حيث لا يجدي معهم إلاّ الحل والخيار العسكري ونطالب الدولة أن تفتح على هؤلاء اتهامات الخيانة العظمى والتخابر مع دولة أجنبية معادية للسودان.. ونهيب بالمواطنين الصادقين المسلمين أن يقدموا المعلومات وأن يتعاونوا مع الجهات ذات الاختصاص لأجل استئصال هذه الفئة الضالة. ونحن قادرون من خلال الإعلام ووسائل أخرى أن نكشف عن هويات هؤلاء العابثين بأمن المنطقة واستقرارها والوقوف أمام مسيرة التنمية، وهناك كشوفات معدة بذلك وأسماء قيادات متورطة في هذه الجرائم ينبغي أن تقدَّم للقضاء والعدالة.. ونرفض بشدة تحويل المنطقة إلى ساحة حرب في سبيل مبادئ دولة أجنبية معادية.. ونأمل أيضاً أن تقوم الإدارة الأهلية بواجبها في التصدي لهذه الفوضى، وندعو جميع أبناء المنطقة في مختلف مواقعهم إدانة هذا السلوك الشاذ والتداعي بخطوات عملية لإجهاض هذه الفوضى العارمة. ونطالب الإخوة في الولاية والمركز بوضع خطة أمنية واضحة لحماية حياة المواطنين هناك وممتلكاتهم ومن هؤلاء النهابون الذين ليس لهم أهداف إلاّ الخراب والدمار، ونطالب معتمد العباسية الأخ صباحي والأجهزة الأمنية بتقديم من تورطوا في هذه العملية الطائشة والذين قدموا المعلومات وآووا ونصروا الخوارج من أبناء المنطقة للعدالة والقضاء وهم معروفون لدينا ولديهم ولن نقبل بأي تسويف في هذا الموضوع لأن التساهل السابق مع بعضهم هو الذي قاد اليوم إلى هذه المأساة... ولنا عودة وعودة.