مدير إدارة ترشيد العمل الإسلامي بمنتدى النهضة والتواصل الحضاري كثيرون يَشْتكون من عدم قدرتهم على استثمار وقتهم، ويظنون أن سبب ذلك أمر إداري يتعلّق بتنظيم الوقت، قد يكون ذلك صحيحاً، لكنه ليس السبب الأهم، إن أهم أسباب ضياع الوقت دائماً هي الأسباب التي تتعلق بالتصور، لأنه من التصور تتشكل الإرادات وتصاغ الأفعال، فليس هناك حركة دون تصور تستند عليه. من إخطائنا في التصور في قضية الوقت ما يمكن أن نسميه بالحنين الآسر إلى الماضي،إذ يرى كثيرون أن أمسهم أفضل من «آنهم»، رغم أن تأملاً بسيطاً في حالهم سابقاً وحاضرًا قد يقود إلى تكذيب هذا الشعور، من الصعب الحكم على مستوى الأفراد لا المجتمعات بأن الأمس أفضل من «الآن»، لأن الآن في طور التشكل، فكيف نحكم عليه؟! وأنصحك قارئي الكريم أن لا تفكِّر بتلك الطريقة، لماذا تنتظر سنوات عديدة ليصبح «الآن».. ماضياً سعيدًا تحن إليه؟ لماذا لا تبادر بإدراك أهمية اللحظة الحاضرة ومقدار فرص السعادة والنجاح التي فيها وتجعل منها حاضرًا سعيدًا؟ حتى تستثمر وقتك ولا تضيِّع سنوات عمرك. إذا كنت تقضي وقتك في الحديث عن جمال الأمس، وسعادة الأمس، وإنجازات الأمس، فاعلم أنك لم تفعل شيئاً أكثر من أنك استهلكت حاضرك في سعادة ماضية، وأضعت فرصاً متاحة الآن لسعادة آتية. إن فرصاً عديدة تتطاير من أمامك وأنت تديم التحسُّر على فرصتين أوثلاث ضاعت منك، لماذا لا تدرك أنه عندما يغلق أمامك باب، ليس من الحكمة أن نطيل التحديق في ذلك الباب المغلق، فتعمى عيناك عن أبواب أخر فُتحت تنتظر من يبادر ويقتحم. إن مطالبتنا لك أن تعيش اللحظة لا نقصد منها ما شاع فهمه من إطلاق العنان لشهوات النفس ونوازع الهوى لتستحوذ على وقتك، ذلك فهم خاطئ، يهدر اللحظة ويذروها للريح، ويذهب غُنمها ويبقى غرمها، بل نقصد منها الفهم الراقي الذي أدركه سلفنا الصالح، وطبقوه في حياتهم، فخلد ذكرهم، قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في «مدارج السالكين»: «إن أفضل الأعمال أحبها إلى الله وأرضاها له عز وجل في ذلك الوقت». ثم فصّل قائلاً: «فالأفضل في وقت حلول الضيف: القيام بحقه، والاشتغال به عن الورد المستحب، وكذا في أداء حقوق الزوجة، والأفضل في أوقات السحر: الاشتغال بالصلاة والقرآن والدعاء والذكر، والأفضل في أوقات الأذان: ترك ما هو فيه من ورد والاشتغال بإجابة المؤذن، والأفضل في أوقات الصلوات الخمس: الجد والنصح في إقامتها والمبادرة إليها، والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج: الاشتغال بمساعدته، وإغاثة لهفته، وإيثار ذلك على أورادك وخلواتك، والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته: عيادته وحضور جنازته وتشييعه، وتقديم ذلك على خلوتك، والأفضل في وقت نزول النوازل وأذاة الناس لك: أداء واجب الصبر مع خلطتك بهم دون الهرب منهم»، فانظر إلى هذا الفكر الثاقب، والتصور الواضح لأهمية الاستفادة من اللحظة فيما هو أكثر نفعاً وأعظم أجرًا. إن من أجمل النصائح التي يمكن أن تقال للمرء بعيدًا عن نجاحه وفشله هي أن يعوِّد نفسه أن تعيش دائماً فوق الماضي، لا بداخله، لأنها إن كانت بداخله فلن ترى الحاضر، وإن كانت فوقه فستستمتع بالحاضر ولن تغيب عنها عِبرة الماضي، وحتى نحقق ذلك أظن أننا بحاجة لأن ننسى أكثر من حاجتنا لأن نتذكر، لأننا غالباً نتذكر الكثير عن الماضي، لدرجة تفوت علينا قدرًا كبيرًا من إدراك الحاضر، وبالتالي تشكل خطرًا أمام مستقبلنا. ليس معنى هذا أن نترك الماضي وننساه ولا نستفيد منه، الماضي مكان جميل لكن فقط للزيارة، وليس للإقامة. لأخذ العِبرة، وإنعاش الخبرة، وليس لاستهلاك الحاضر، إن الأمس تاريخ، والغد غيب، والحاضر هدية، لذلك يسمونه في اللغة الانجلزية (present)، اقبل الهدية وعش اللحظة تستثمر وقتك. باختصار، عندما تكون حزيناً فالسبب الأكبر هو النظر إلى الماضي، وعندما تكون خائفاً فالسبب الأكبر هو النظر إلى المستقبل، لذلك اترك النظر إلى الماضي بحزن، وللمستقبل بخوف، ولتنظر إلى الحاضر بوعي بما قد مضى وتخطيط لما قد يأتي، حتى لا يضيع حاضرك قبل أن تأخذ منه أفضل ما يمكن.